يقول الله عز وجل:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) (الكهف 107)، وقول النبي (عليه الصلاة والسلام):(إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ ـ أُرَاهُ ـ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ) (البخاري، والبيهقي).
يحثنا الله عز وجل ونبيه إلى التطلع إلى أفضل الدرجات العلى من الجنة، والاجتهاد للوصول إليها بالجد والصبر، بعزيمة صادقة دؤوبة دائمة، ولا تأتي هذه إلى بخلق مصاحب تنفخ روحه في الأذكياء الطموحين المعروفين بعلو الهمة.
ويدعو الإسلام المسلم إلى الهمة العالية لنيل المكانة الرفيعة في جوانب شتى، في الأخلق، وفي طلب العيش والكسب والكدح والعمل والمشي في مناكب الأرض (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة ـ 105)، وفي السعي لطلب العلم، والجهاد، وقد حث الإسلام على التطلع إلى أفضل المناصب الدنيوية والأخروية كما في الآية والحديث السابقين.
و(الهمّة من الهمّ، وهو ما هُمَّ به من أمرٍ ليُفْعَل) (لسان العرب لابن منظور)، و(الهمة: هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلوٍّ أو سفول، العلو يدل على السمو والارتفاع) (مقاييس اللغة لابن فارس، ولسان العرب لابن منظور)، و(علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية) (تهذيب الأخلاق للجاحظ).
إنّ علو الهمة هو وسيلة عظيمة من وسائل الارتقاء إلى سلم كل مجد عظيم، ولكن بشرط: أن يقترن بحسن التبصر بالأمور (أي: التخطيط السليم)، وتقدير الأمور حق قدرها (وضع أهداف مشروعة ويمكن أن تنال ولو بصعوبة)، ورسم خارطة طريق للوصول إليها، ومدة زمنية وعمل حساب لكل ما تحتاجه، وتصحيح مفهوم الزهد: يظن البعض بمفهومه الخاطئ عن القصد من الزهد الذي يدعو إليه الإسلام هو الفقر، وهذا يلجئهم إلى الإبطاء في العمل والكسل والركون إلى العبادة والصومعة، وترك الجد والاستثمار، بينما في الحقيقة يدعو الإسلام للزهد دعوة القناعة بما قسم الله من رزق، والالتزام بحدود الشرع في كسب الرزق، والتربية على العفة عما في أيدي الناس، وعدم الطمع بما لدى الآخرين، وعدم الحسد ورغبة في امتلاكه، فذلك لأجل التعلق بالآخرة وعدم الركون لحب الدنيا لذاتها وملذاتها فالآخرة خير وأبقى وأجمل (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر ـ 40)، وذلك لكي لا يضيع الجهد والطاقات في العبث وكانت عزائمه ألعوبة في شذوذ فكري.
وقد كانت همة الأنبياء دائمًا في أوج علّوها، وكانوا يتفاوتون في علّو هممهم ومقامهم جميعًا ذات مناصب عالية، فخرج منهم أولو العزم صفوتهم، لذلك أمر الله خاتم أنبيائه بالصبر والاجتهاد حتى يصل إلى مستواهم:(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف ـ 35)، فتحلى النبي بعلّو الهمة وغرس ذلك في أصحابه حتى أصبحوا (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران ـ 110)، كما نهى الإسلام عن الكسل والخمول والاتكالية ونهى عن مسألة الناس والدعة وأمر بالبعد عن الهزل واللعب وكل أمر لا فائدة فيه.. ولعلو الهمّة مظاهر عديدة في الإسلام:
1. الجد في العمل: وعدم التواني والكسل، وعدم التباطؤ والتهاون، والسعي لكسب العمل، فالإسلام دين يحث على النشاط والعمل الجاد المتقن قال النبي:(بُورِكَ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) (الطبراني، في المعجم الأوسط والصغير)، فالمؤمن الصادق يكره الكسل ويحتقر الدعة ويستعيذ من بدعوة رسول الله:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبْنِ وَالهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ) (البخاري ومسلم وأبو داود)، وقد ذمَّ الإسلام مسألة الناس أعطوه أو منعوه فاليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة.
2. الهمة في العبادة: ذم القرآن المنافقين أنهم يقومون للصلاة كُسالى:(وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة ـ 54)، بينما المؤمن الصادق صاحب الهمة العالية يقوم للصلاة بهمة ونشاط ورغبة صادقة إلى درجة تركهم للنوم والراحة:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة 16 ـ 17).
3 ـ التطلع إلى الكمال: والترفع عن النقص في كل شيء، لأنه من مظاهر الإسلام السمحة، (إِنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، وَمَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيُبْغِضُ ـ أَوْ قَالَ: يَكْرَهُ سَفْسَافَهَا) (الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد في المستدرك على الصحيحين)، وقد رفع القرآن مراتب الكمالات بتمييزه بين الطيب والخبيث وبين الذين يعملون والذين لا يعملون وبين المجاهد والقاعد وبين السابقين والمتخلفين وفضل المرتقين في مراتب الكمال على الناقصين، قال تعالى: (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة ـ 100).
سامي السيابي
كاتب عماني
(فريق ولاية بدبد الخيري)