الاثنين 07 يوليو 2025 م - 11 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «حرف اللام ودوره فـي البلاغة القرآنية» «4»

الأربعاء - 23 أكتوبر 2024 04:42 م
10

..وجملة الجواب:(لا تحصوها) بدأت باللام التي تخرج من جوانب الفم، وبعدها الألفُ الجوفيَّةُ، وهما يعنيان بأصل وضعهما، وصوتيهما سعة النفي، وعدم محدوديته، وأن ذلك مما تُقِرُّ به كلُّ أعضاء النطق، ويخرج من جوانب الفم: اعترافًا، وإقرارًا، مع انخلاع الجَوْفِ، وعمق إقراره، ويقينه بذلك، ويترشَّح هذا بواو الجماعة في الفعل المنفي:(لا تحصوها)، أي: لو اجتمعتم جميعا بملياراتكم، وملايينكم، وبكلِّ قاراتكم، ودولكم، ومجتمعاتكم، فلن تستطيعوا إحصاءَ نعم الله، وعدَّها؛ لكثرتها كثرةً تفوق التخيُّل، وتعلو على كل تصوُّرٍ، وهي ـ بلا شك ـ فوق الحصر، وخارج العد، وتفوق كل حساب.

فجملة:(لا تحصوها) كناية عن سعة نِعَمِ الله، وتعدُّدها، وتنوُّعها، وكثرتها، وامتلاء الأرض بها في كل مراحلها، وأزمانها، ودهورها، وأحقابها، وأنها غارقة في عطاءات الله، ونِعَمِهِ، وإنْ حاول الخلق عَدَّ نِعَمِ الخالق فإنهم لا يمكنهم ذلك.

ثم عقَّب القرآنُ الكريمُ بقوله:(إنَّ الإنسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) استعمل القرآن هنا عدة مؤكدات، منها مجيء الجملة اسميةً، ومنها كذلك وجودُ المؤكِّد: (إِنَّ)، ومنها استعمالُ صيغ المبالغة، والصفات المشبهة: (ظلومٌ ـ كفَّار)، ومنها استعمال اللام المزحلقة، وتلك اللام بصوتها القويِّ الرنَّانِ قد رسَّخَتْ لمعنى ظلم الإنسان الشديد، وكفره المتتابع، وكونُها تخرجُ من جوانب الفم هو أمرٌ يبيِّنُ هو الآخرُ الاعترافَ التامَّ، والإقرارَ الكاملَ بذلك، كما أنَّ اللام في (لَظَلُومٌ) ترشِّح ذلك، وتقوِّيه، وتدفع بإقراره، وتغذِّيه، وتنشره، وتعترف، وتقرُّ إقرارَه به، وتُنَمِّيهِ.

وأما في قوله تعالى:(.. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ..)، فتجد العجب في استعمال اللام التي فُكَّ إدغامُها وجوبًا في قوله:(أَضْلَلْنَ) لاتصالها بضمير رفع متحرك هو نون النسوة، فصارت من الفعل:(أضل) بلام واحدة مشددة إلى الفعل:(أَضْلَلْنَ) بلامين مفكوكتين وجوبًا، ولعل الفكَّ الوجوبيَّ هنا له دلالاتُهُ من حيث كثرةُ إضلال الأصنام لكثير من البشر، عبر تاريخهم، فهم يرونها معبودًا من دون الله، وهناك مِنَ البشر ـ القائمين على تلك الأصنام ـ مَنْ يفيدُ من ذلك مالا، وغيره من الأعطيات، وقد كان في المسجد الحرام نفسِه قديمًا ثلاثُمائةٍ، وستون صنمًا، تُعبَد من دون الله، وكسَّرها رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يومَ دخلَ مكةَ فاتحًا مظفرًا، فهذه الكثرة الكاثرة عُبِّرَ عنها بوجود لَامَيْنِ متتابعتَيْنِ، كلُّ واحدة تخرج من جوانب الفم، تقرُّ، وتعترفُ بما فعلته الأصنامُ، ولعل قوله:(أضلَلْنَ كثيرًا من الناس) جملة ترشِّح، وتقوِّي ما أرْسَتْهُ هاتان اللامانِ، وما كشفتْ عنه بصوتَيْهِمَا القويِّ المتكررِ، وكذلك الراءُ حرفُ التكرار، فقد تعاوَنَتِ اللامان مع الراء في رسم صورة هؤلاء على كثرتهم، وتعدُّدهم عبر تاريخ البشر، وما فعلوه في البشر مِنْ تحويلهم عبادة غير الله، والتوجُّه لغير جلاله، والسجود لأحجارٍ لا تضرُّ، ولا تنفعُ، أو الدوران حولها، وإعطاء ما في وُسْعهم من المال، والأطعمة، والقرابين المقدمة لها، وتقديم كل ألوان التقرب لها: إشراكًا، وعبادةً، وخوفًا منها، وتوكلًا عليها، واعتدادًا بها.

فهذا الفكُّ الواجبُ لمضعف الثلاثي (ضلَّ) المزيد بالهمزة:(أضلَّ) قد أسهم ـ من غير شك ـ في توضيح المراد، وبيان المقصود، حيث شرح هنا هذا التناغمَ بين المعنى، والصوت، أو الدلالة والحرف الذي جاء لأجله، وسيق لشرحه، فالأصنامُ أَضَلَّتْ البشرَ كثيرًا، وأبعَدَتْهم عن ربهم ردْحا كبيرًا من الزمن عبر تاريخهم الطويل، فالذي يتناغم مع هذا المعنى، ويتساوق معه، ويتضاهى، ودلالته، هو فكُّ اللام التي تخرج من جوانب الفم، وكأنها تملؤه، ويُخرجِها لبيانِ كثرةِ الإضلالِ التي تمثل في تلك الراء التي اتصلتْ بنون النسوة، العائدة على الأصنام، وكأنها تعي ـ مثل النساء العاقلات ـ ما تفعله بالبشر، وما تمليه عليهم من تتابعِ عبادتِهَا، وكثرةِ إضلالِها، وإبعادها الخلق عن ربهم، وأخذهم بعيدًا عن طريقه الصحيحة، وسبيله القويمة.

هكذا بَدَتِ الآياتُ الكريمات كاشفةً بِصَوْتِ حرفها (اللام)، وكيفيةِ خروجِه، كشفتْ عن خطير معانيها، وجليل دلالاتها، وكبير مقاصدها، وراقي مراميها؛ ومن ثم، فلا نزال ـ في كل مرة ـ نلحُّ على أنه يلزمُ القارئَ للكتاب الكريم أنْ يقفَ على معاني تلك الحروفِ، ودلالاتها في سياقاتها، ويتأملَ في سببِ إيرادِها في تلك الدلالاتِ بعينها، وهذه المَقَامَاتِ بذاتها، وهاتيك السياقات نفسها؛ ليدركَ عظمةَ هذا الكتاب الكريم، وأنَّ كلَّ ما فيه حتى حروف كلماته التي تشكِّل، وتَبْنِي ألفاظه، إنما هي ـ في الأخير ـ أمرٌ معجِزٌ، وأنه تظهر أنه كلامُ اللهِ، ربِّ العالمين، نَعَمْ، هو معجزٌ في حروفه، ومعجِزٌ في كلماته، ومعجِزٌ في عباراته، وجمله، ومعجِزٌ أيضا في أساليبه، وفي كلِّ تراكيبه، ومن هنا كانت عظمته، وأعاجيبه.

ونواصل الحديثَ عن نماذج أخرى لصوت آخر، وما يُحدِثه من جمالٍ، وجلال، وما يؤديه من كمال في هذه المعاني الإيمانية، وتلك الدلالات القرآنية، والحمد لله، ربِّ العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]