الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «حرف اللام ودوره فـي البلاغة القرآنية» «3»

الأربعاء - 16 أكتوبر 2024 04:39 م
20

من المعلوم من اللغة بالضرورة أن الإعجاز البلاغي في كتاب الله تعالى يكون في الكلمة، ويكون في التركيب، والأسلوب، ويكون كذلك في الحرف، وترى الحرفَ المستعمَلَ في الكلمة القرآنية متناغمًا مع المعنى الذي سِيقَ له، ومتساوقًا مع الهدف الذي وردتْ الكلمة لأجله، وجاءتْ لبيانه، ورسم ما وراءه من معنًى. وهنا نعرض مرة ثانية، وفي آيات أخر لحرف اللام، وصَوْتِهِ في الكشف عن الإعجاز البلاغي لآيات الكتاب العزيز تلك، وتوضح جمال معناها، وجلال دلالاتها، وكمال مبناها، واتساع، وتساوقه مع أهدافها، وأغراضها، ومراميها.

النموذج الثاني:

نعرض هنا للإعجاز الصوتي في حرف اللام، ونرى ما فعله في سياقه، وما سكبه من بلاغة، وبيانٍ، وجمالٍ، وكمالٍ في محلِّه من الآيات القرآنية، ومَوَاضِعِهِ في السور الكريمة، يقول الله تعالى:(الـر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (إبراهيم 1 ـ 2).

في تلك الآيات تجد الثناء كبيرًا على الله، وكتابه، وعلى صراطه المستقيم، ومن أول آية تجد تعدُّد أسماءِ الله، وتعظيمَه، وتبجيلَه، حيث يقولُ الله تعالى:(.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..).

فالموقفُ موقفٌ تعظيم الله، ومن هذا التعظيم تفخيمُ اسمِهِ الجليل، وعدم ترقيقه في هذا السياق المعظَّم، وعندما ننظر إلى نطق الاسمِ الكريم في الآية نجد أنه أتى هنا مجرورًا على التعظيم، بدلًا من الاسمين الكريمين:(العزيز، الحميد) المضاف إليه سابقًا، رغم أنها أولُ آية، ومن المفترض رفعُها على أنها مبتدأ، وبالفعل هي قُرِئَتْ بقراءتين، هما ـ كما في كتب أهل القراءات ـ قالوا: قرأ برفع اسم الجلالة كلٌّ من نافع، وابن عامر على أنه مبتدأ، وقرأ بجره الجمهورُ، على أنه بدلٌ، أو عطفُ بيانٍ من (العزيز الحميد)، (إبراز المعاني شرح الشاطبية)، هذا بالنسبة للقراءات السبع، ووافق أبو جعفر نافعًا، وابنَ عامر، كما وافق خلفٌ، وروحٌ عن يعقوب الباقين، وأما رُوَيْسٌ عن يعقوب ، فإنه وافق الأولين في الابتداء، ووافق الآخرين في الوصل.

نتكلم هنا عن تفخيم اللام؛ لأنها تفخَّم: رفعًا، وجرًّا؛ لكونها مبتدَأً بها، لكنها لو تواصلتْ مع الآية قبلها لَرُقِّقَتِ اللامُ فيها، ولكنْ من السُّنَّةِ المطهرة الوقوفُ على رؤوس الآي، فنبدأ باسم الجلالة:(الله الذي..):(رَفْعًا، وَجَرًّا) مفخمَةً؛ لأنها سَيُبتَدَأُ بها الكلامُ، وإذا قرأناها مبتدئين بها ، دونَ وصلٍ بما قبلها- لَفُخِّمَتْ اللام، وهو المقصودُ من السياق، فالذي يُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، ويُخْرِجُهم إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ، إلى الله الذي له ملك السموات والأرض، هو الله رب العزة القادر على كل ذلك، فاقتضى المقام هنا تفخيمَ اللام؛ ومِنْ ثَمَّ تعظيم صاحبها ـ جلَّ جلاله ـ فالتفخيمُ كنايةٌ عن الجلال، والكمال، وهو ما يسعى إليه السياقُ، والتفخيم كذلك يتناغم مع الدلالة القرآنية، ويتساوق مع المعنى الذي سِيقَتْ له دلالةُ الآية، وهو من أكبر سمات القرآن الكريم، ومن أَخَصِّ خصائص كلماته، وأمْيَزِ ألفاظه التي تترابط مع معانيها، وترسم بأصوات حروفها تلك المغاني، وهاتيك الأهداف، والمرامي.

النموذج الثالث:

قول الله تعالى:(وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم 34 ـ 36).

تتكلم الآية هنا عن سعة عطاء الله للإنسان، وأنه إنْ أراد عَدَّ النعمِ التي أنزلها الله على عباده فلن يستطيعَ، ولا يمكن أن يُحصيَها؛ لخروجها عن العد، وَنَدِّهَا عن الحصر، وخروجها عن حد إنسانيته، وحدود قدرته، وإمكانيته، واستطاعته.

وهنا في جملة الشرط:(وإن تعدوا نعمة الله) تأتي كنايةً عن عظمتها، وأن كلَّ مَنْ في الأرض لو تجمَّعوا على حصرها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ لأن واو الجماعة في:(تَعُدُّوا) تعود على جميع الخلق، على كثرتهم.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]