السبت 27 يوليو 2024 م - 21 محرم 1446 هـ

آية الإسراء.. «قراءة تحليلية بلاغية وتربوية« «3»

الأربعاء - 24 يناير 2024 05:30 م
30

.. وكلمة:(ليلًا) ـ على تنكيرها ـ لها عدةُ معانٍ، منها أنها جزءٌ من الليل لا كلُّ الليل، وهو كنايةٌ عن عظمة الله، وكمال حكمته، ومنها أن الليل هو محلُّ السكون، والتأمل، والتسبيح، والتَّمَلِّي، والعبودية، حيث اختلاء كلِّ حبيب بحبيبه، وافتراش الجباه لله، وأن الليل هو محل العبودية الحقة؛ إذ ينام منا الكثير، ويقوم لله القليلُ:(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات 15 ـ 18).

ويتعلم المرءُ منها جلالَ الليل في استنزالِ خيرِ الله وفضلِه، ومنها أن المحبَّ يمكنه أن يقوم لربه ليلا، ولو بقسط يسير منه، يتعبد، وينصب قدميه باكيا بين يدي ربه؛ لأنه وقتُ القبول، ودليلُ الحبِّ، والوصول:(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور ـ 49)، ونحوما ورد في السورة نفسها (سورة الإسراء، الآية 79) من قوله تعالى:(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، فالليلُ مجتمَعُ الأحبة، ودليلُ صدق المودة؛ ومن ثم جاءت كلمة:(ليلًا) جامعة لكلِّ تلك الدلالات، وهاتيك المعاني، والإشارات، وهذه القيم، والآداب الساميات.

ثم حدَّد الله تعالى المبدأ والمنتهى لتلك الرحلة، فقال:(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، فحدد بدايتها، ونهايتها، وكما ترى أنها بدأت من مسجد، وانتهت إلى مسجد؛ كناية عن طهرها، وقدسيتها، وهكذا حياة المؤمن، تتنقل من مكان عبادة إلى مكان عبادة، كما أنها إعلانُ وراثةِ المؤمنين للمسجدَيْن الشريفَيْن، وأنها ضمن ممتلكات المسلمين، و(من) هنا لابتداء الغاية المكانية، وكذا (إلى) تفيد انتهاء الغاية المكانية، ونتعلم من ذلك أنه إذا أردْنا عملا ناجحًا حددنا غايتَه أولًا، وحددناه الوسيلة التي ننتقل بها في عمله، ووضحْنا بدايته، ونهايته، ووقتَه، وكلَّ ما يتعلق به، كما يقولون حديثًا (دراسة الجدوى)، فالله تعالى علَّمَنا كيف تمضي الأمورُ بكل تفاصيلها، ودقائقها، والمسجِدُ هو مكان السجود، ويطلق على المتعبَّد الكبير، ومكان العبادة المتسِع، وقوله: «المسجد الحرام» عبر عنه بالمصدر الذي يفيد الثبات، والاستمرار، فحرمتُه باقيةٌ إلى يوم القيامة، وعظمتُه مستمرةٌ إلى يوم الدين، وسرمدية مكانتِه سائرةٌ إلى يوم نلقى اللهَ رب العالمين، والأصل أن يقال:(مسجَد) بفتح الجيم؛ لأنه اسم مكان من الفعل:(سَجَدَ يَسْجُدُ) بضم الجيم في المضارع، وكل ما كان على (فَعَلَ، يَفْعُلُ) فاسم المكان والزمان منه على وزن (مَفْعَلٌ) بفتح العين مثل:(خرج يخرُج من هذا المخرَج، ودخل يدخُل من هذا المدخَل، وقتل يقتُل في هذا المقتل)، فكان يلزم أن تكون:(مسجَد) بفتح الجيم (وهي قاعدة نحوية، وصرفية مشهورة) لكن القرآن الكريم كسر هنا الجيم؛ لأن لغة العرب كانت لا تفتح جيم (المسجد)، وإنما تكسرها، فنزل القرآن الكريمُ بلسان عربي مبين؛ حيث سجَّل الكتاب العزيز ما يجري على ألسنتهم، لا ما في قاعدتهم، فهو ـ كما قال النحاة ـ شاذٌّ قياسًا، فصيحٌ استعمالا، فقد ورد على الفصيح من كلامهم، وحديثهم، وتعاملاتهم، لا على ما في قاعدتهم النحويةِ النظريةِ، بل سجَّل ما تتفوه به أفواهُهم، فكان دليلا على صدقه، وجلال قوله:(بلسان عربي مبين)، وقوله:(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون)، و(الأقصى) أفعل تفضيل، أيْ أبعد في مكانه، ومكينه، أو مقامه، ومنزلته، فهو بالنسبة للمسجد الحرام بعيدٌ بعيدٌ، والقافُ، والصاد مع الهمزة، وقسوة نطقِها، حيث تخرج من الحنجرة،وهي أول أعضاء النطق، وأوَّلُ الأبجدية.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية