الأحد 01 يونيو 2025 م - 5 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

العرب وركوب البحر

العرب وركوب البحر
الأحد - 13 أكتوبر 2024 05:03 م

أ.د. محمد الدعمي

20

يُعَدُّ تاريخ العرب عَبْرَ حركتهم البحريَّة من أبرز فصول حضارتهم التَّاريخيَّة الإسلاميَّة، إذ امتدَّ نفوذهم البحري من شواطئ شِبه الجزيرة العربيَّة جنوبًا إلى أقصى المحيط الهندي والبحر المتوسط، شرقًا. ورغم أنَّ البيئة الصحراويَّة شكَّلت الطَّابع الغالب على حياة العرب في قديم الأزمان، إلَّا أنَّهم تمكَّنوا من تطويع البحر وتحويله إلى طريق للتِّجارة والتَّوسُّع والتَّبشير الإسلامي فيما بعد من الحِقب التَّاريخيَّة.

كانتْ علاقة العرب بالبحر قَبل ظهور الإسلام متباينة بَيْنَ القبائل. فبعض القبائل السَّاحليَّة، مِثل القبائل العُمانيَّة واليمنيَّة الَّتي كانت تتمتَّع بخبرة بحريَّة واسعة وتعتمد على التِّجارة البحريَّة كمصدر رئيس لمداخيلها. بَيْنَما بقِيَتْ قبائل البادية الدَّاخليَّة أكثر ارتباطًا بالحياة البَرِّيَّة المُوحِشة وتخشَى البحر وأهواله، برغم عدِّها الجَمل «سفينة الصَّحراء».

وقد أثَّرت عدَّة عوامل على العلاقة المتباينة بَيْنَ العرب والبحر، مِنْها هيمنة البيئة الصحراويَّة الجرداء على حياة مُعْظم القبائل العربيَّة، الأمْرُ الَّذي جعلَها تُركِّز على الأنشطة البَرِّيَّة، واعتماد القوافل للتِّجارة. ومن ناحية ثانية، سيطرة القوى الأجنبيَّة، مِثل امبراطوريَّات الفرس والبيزنطيِّين، على طُرق التِّجارة البحريَّة الرئيسة، الأمْرُ الَّذي حدَّ من نشاطِ العرب البحري، علمًا أنَّه لم تكُنْ لدَى العرب قَبل الإسلام الخبرة والتكنولوجيا اللازمة لبناء السُّفن الكبيرة والمناورة في البحار المفتوحة.

ولكن مع ظهور الإسلام، شهد النَّشاط البحري العربي تحوُّلًا جذريًّا. إذ شجَّع الإسلام على السَّفر والتِّجارة، ممَّا دفَع المُسلِمين (وخصوصًا النَّاشرين مِنْهم) إلى استكشاف البحار والمحيطات المحيطة بأراضيهم على أملِ نشرِ الإسلام عَبْرَ البحار السَّبعة!

ولقد خدمَ التَّوسُّع البحري وسيلة لِنَشرِ الإسلام في مختلف أنحاء العالَم. بَيْنَما خدمتِ البحار طُرقًا ومسارات للتِّجارة مع مختلف الشُّعوب والحضارات، الأمْرُ الَّذي أدَّى إلى ازدهار الاقتصاد الإسلامي. ومن ناحيةٍ أخرى، لم يهملِ العربُ البحارَ كفضاءاتٍ للحروب والصِّراعات مع القوى المعادية للإسلام على عصر الفتوحات، خصوصًا أثناء خلافة معاوية ابن أبي سفيان (العصر الأموي).

وقد حقَّق المُسلِمون إنجازات بحريَّة عظيمة، ومن أهمِّها، اكتشاف المحيط الهندي، فقد وصلَ المُسلِمون من جنوب جزيرة العرب إلى المحيطِ الهندي عَبْرَ تجارتهم مع شعوب الهند والصين وجنوب شرق آسيا.

ومن ناحية ثانية، تنافَسَ البحَّارة العرب مع البيزنطيِّين للسَّيْطرة على البحر المتوسِّط، إذ حقَّقوا انتصاراتٍ كبيرة على مياهه. وعَلَيْه ليس من الغريب أن يعمدَ العرب إلى تطوير صناعة السُّفن وبناء سُفنٍ كبيرة وقويَّة قادرة على الإبحار لمسافاتٍ وفراسخ بحريَّة طويلة لِنتذكَّر معركة «ذات الصَّواري»!

ولكنَّ تراجعَ النَّشاط البحري العربي قد تراجعَ فيما بعد بسببِ الصِّراعات الدَّاخليَّة بَيْنَ الكيانات الإسلاميَّة، الأمْرُ الَّذي قادَ إلى ضَعفِها وتشتُّتها، ممَّا أثَّر سلبًا على النَّشاط البحري. زدْ على ذلك ظهور القوى البحريَّة الأوروبيَّة، فقد برزَتِ القوى البحريَّة الأوروبيَّة الكبرى آنذاك، كالبرتغال وإسبانيا، إذ إنَّها قد سيطرت على طُرق التِّجارة البحريَّة، ناهيك عن التَّغيُّرات المناخيَّة الَّتي أدَّت إلى تغيُّر وتحوُّل العديد من المسارات التجاريَّة والتيَّارات البحريَّة، ممَّا أثَّر على التِّجارة البحريَّة سلبًا. ومع ذلك كُلِّه، يُعَدُّ تاريخ العرب وركوب البحر متواشجًا كشاهدٍ على عظَمة الحضارة العربيَّة ـ الإسلاميَّة وعلى إسهاماتها الجليلة في مجالَي الاستكشاف والتِّجارة. ولكن رغم تراجع النَّشاط البحري العربي في العصور اللاحقة، إلَّا أنَّ إنجازات البحَّارة العرب من أمثال «أحمد بن ماجد» ما زالت محلَّ تقديرٍ وإعجاب المؤرِّخِين عَبْرَ العالَم حتَّى يومنا هذا.

أ.د. محمد الدعمي

كاتب وباحث أكاديمي عراقي