أيها الأحبة: توقف بنا الحديث في المرة الماضية عند أول موقف من لشهر رجب في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو هجرة
المسلمين إلى الحبشة، ولم يقف هذا الشهر الحرام عند هذا الحد في حياة النبي الكريم بل كانت هذه البداية، وقد بلغت درجة هذا الشهر الحرام في حياته ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ درجة كبرى نال النبي فيه ما لم ينله نبي قبله، ففي كتاب (تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس، ج1، صـ307)، قال:(جاء في أسد الغابة: فأما سنة الاسراء والمعراج، قال السدّى: قبل الهجرة بستة أشهر، وهناك آراء أخرى، وأما شهر الاسراء والمعراج، فقيل في رجب حكاه ابن عبد البرّ وقبله ابن قتيبة وبه جزم النووي في الروضة، وهناك آراء
أخرى)، وذكر صاحب كتاب (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، ص: 63): (أن الإسراء قبل الهجرة بسنة وبه جزم ابن حزم في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب وهو المشهور وعليه عمل الناس، وكان ليلة الاثنين وكان بعد خروجه إلى الطائف).
وإليك ـ أخي القارئ الكريم ـ بعضًا من تفصيل ذلك، ففي (سيرة ابن هشام، ت: طه عبد الرؤوف سعد، ج2، صـ32): (عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الحِجْر، إذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ فَلَمْ أرَ شَيْئًا فَعُدْتُ إلَى مَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثانيةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْتُ إلَى مَضْجَعِي فَجَاءَنِي الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا دَابَّةٌ أَبْيَضُ، بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فِي فخذيه جناحان يحفز بهما رجله، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، وقال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرفته، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ مِمَّا تَصْنَعُ، فَوَاَللَّهِ مَا رَكِبَكَ عَبْدٌ للهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، قَالَ: فَاسْتَحْيَا حَتَّى ارفضَّ عرقا، ثم قرَّ حتى ركبته، فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُه)، قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَضَى جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ مَعَهُ، حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فأمَّهم رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ أُتِيَبِإِنَاءَيْنِ، فِي أَحَدِهِمَا خَمْرٌ، وَفِي الْآخَرِ لَبَنٌ. قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إنَاءَ اللَّبَنِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَتَرَكَ إنَاءَ الْخَمْرِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هُديت لِلْفِطْرَةِ، وهُديَتْ أُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ، وحُرمت عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ. فَقَالَ أَكْثَرُ النَّاسِ: هَذَا وَاَللَّهِ الإِمْر الْبَيِّنُ، وَاَللَّهِ إنَّ الْعِيرَ لَتُطْرَدُ، شَهْرًا مِنْ مَكَّةَ إلَى الشَّامِ مُدْبِرَةً، وَشَهْرًا مُقْبِلَةً، أَفَيَذْهَبُ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَرْجِعُ إلَى مَكَّةَ؟!
قَالَ: فَارْتَدَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ أَسْلَمَ، وَذَهَبَ النَّاسُ إلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالُوا لَهُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِكَ، يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَصَلَّى فِيهِ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: إنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ؛ فَقَالُوا: بَلَى، هَا هُوَ ذَاكَ في المسجد يحدث به لنَّاسَ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ، فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ! فَوَاَللَّهِ إنَّهُ لَيُخْبِرُنِي أَنَّ الْخَبَرَ لَيَأْتِيهِ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَأُصَدِّقُهُ، فَهَذَا أَبْعَدُ مِمَّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ. أحدَّثت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنَّكَ جِئْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَصِفْهُ لِي، فَإِنِّي قَدْ جِئْتُهُ، قَالَ الْحَسَنُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرُفِعَ لِي حَتَّى نَظَرْتُ إلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَصِفُهُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، كَلَمَّا وَصَفَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، حَتَّى إذَا انْتَهَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَبِي بَكْرٍ: وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ؛ فَيَوْمَئِذٍ سَمَّاهُ الصِّدِّيقَ). وفي (دلائل النبوة للبيهقي) محققًّا(جـ2ص:359):(قَالَ أَبُو سلمة ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ يُحَدِّثُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أَنْظُرُ إِلَيْهِ).
ومن هنا نأخذ أن هذا الشهر الكريم فيه انفراجة لكل هموم وغموم فبعد أن أغلقت الأبواب أمام رسول الله من البشر فتح الله له أبواب السماء والأرض، كما نأخذ أن هذا الشهر لما شرفه الله بهذه الرحلة المعجزة أظهرت لنا كرامة رسول الله على الله، ومكانته عند ربه، كما أن هذا الشهر فضله الله بأن فرضت فيه الصلوات الخمس فقد فرضها الله تعالى على رسوله وهو في المعراج، كما أن هذا الشهر أظهر لنا أن المؤمن إذا ثبت على دينه فإن الله تعالى معينه، بل إن الله تعالى يعلي مكانته عنده وعند الناس وها هو أبو بكر يثبت على دينه ويصدق رسول الله في أخبر فلما قال:(إن كان قال فقد صدق) فرفعه الله تعالى إلى درة الصديقية فكان من الصديقين.. وللحديث بقية.
محمود عدلي الشريف