الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

دعائم الحكمة «3» الإنابة

الأربعاء - 09 أكتوبر 2024 05:23 م
10

قال الحكيم في سورة لقمان، الآية (15)، على لسانه تخليدًا لحكمته وهو يعض ابنه:(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

والإنابة سبب للاصطفاء عند الله، قال الله تعالى:(اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى ـ 13)، وهي عمل تصدقه الجوارح بمباركة القلب، قال تعالى:(مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) (ق ـ 33)، قال القطب:(وليس إسناد الإنابة إلى القلب مجازا بل حقيقة.. والجوارح تتبعه.. حقيقة) (تيسير التفسير).

وليست الإنابة أمرًا اختياريًا بل هي واجبة لأنها تلبية لأمر الله تبارك وتعالى:(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (الزمر ـ 54).

وذكرت الإنابة في القرآن الكريم (18) مرة دليل على أهميتها، كما أثنى الله بها على خليله فقال:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) (هود ـ 75)، وتربط الإنابة بالحكيم من اخلال استقراره على التوبة، وقربه من ربه، ويستخدمها الحكيم في تبصره لآيات الله وتفكره في كونه وخلقه: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) (ق 6 ـ 8)، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ) (غافر ـ 13)، وعليه يكون الحكيم من المؤمنين المنيبين إذ من صفاتهم الإنابة:(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان ـ 15).

الإنابة في اللغة: تدور مادة (ن و ب) حول الرجوع؛ الرجوع المعتاد إلى شيء، وفي الاصطلاح: له تعريفات كثيرة، ولكن اتفق العلماء منهم الجرجاني والكفوي وابن القيم ومنهم اللغويون كالخليل وابن منظور والجوهري وإبراهيم أنيس أنه (رجوع العبد إلى ربه)، واختلفوا في هوية الرجوع: فقيل: الرجوع بالتوبة وإخلاص العمل لله، وقيل: من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأنس، وقيل: الإسراع إلى مرضاته، ومعنى ذلك أن الإنابة هي التردد الدائم إلى الرب، لطلب التوبة، والنصرة، ولأجل استمرارية الاتصال بالله، وعدم انفكاك القلب عن ذكره والاستعصام به، ولأجل الفرك الدائم براك الاستقامة والمضي قدما في طاعته حتى الحصول على رضاه ومحبته.

وتنقسم الإنابة إلى قسمين، قسم عام، وقسم خاص:

1. الإنابة العامة: يشترك فيه كل المخلوقات مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، وتظهر هذه الإنابة عندما تمر بالناس محن يظنون فيها الموت، فريجعون إلى الله بالدعاء معترفين به، ثم إذا انكشف الضر ظل المسلم البار متمسكًا بربه، وعاد الباقون إلى كفرهم وشركهم، (إِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الروم ـ 34).

2. الإنابة الخاصة: إنابة أولياء الله، وتتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، يقول ابن القيم:(تفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك) (مدارج السالكين).

ويمكن تلخيص فوائد الإنابة في: نيل الثواب والجنة:(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ، ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ، لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (ق 31 ـ 35)، وممن تختص البشرى لهم من الله أهل الإنابة:(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ) (الزمر ـ 17).

سامي السيابي

 كاتب عماني

(فريق ولاية بدبد الخيري)