الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «حرف اللام ودوره فـي البلاغة القرآنية» «2»

الأربعاء - 09 أكتوبر 2024 03:28 م
20

.. وكل الفم: عقيدةً في الله، ويقينًا بما عند الله، وحسنَ اتصالٍ بالله، وتلك الألف الجوفية التي تخرج من كلِّ الجوف، وتملأ الصدر، فلو تخيلنا صوتها، وهيئة خروجها، لعرفنا كيف امتلأ بها صدرُ سيدنا موسى (عليه السلام) امتلأ باليقين التام، والاعتقاد الجازم بأن ما تفوَّه به المؤمنون معه من أنهم مدركون مقتولون بيدَيْ فرعونَ، وزبانيتِه هو كلامٌ عارٍ عن الصحة، وهو مجرد مخاوفَ، لا معنى لها، ولا وزنَ لها، أيْ أنه يقول لهم:(أبدًا أبدًا أبدًا، لا يمكن وصوله إلينا، ولا في وُسْعِهِ أن يقدِّم لنا أيَّ أمرٍ يؤلمنا، أو يؤذينا).

إنَّ لفظة (كلا) قد ملأت الفضاء يقينًا، والقلوبَ اعتقادًا في سعة قدرة الله، وقوته، وهيمنته على كونه، ثم أعقب سيدنا موسى (عليه السلام) لفظ (كلا) الهائلة المعاني، والمطمئنة للقلوب الطاردة لكل هلع وخوف، ووجل وضعف، بقوله:(إنَّ معيَ ربِّي سيهدينِ) جاءت بكل ألوان التأكيد، حيث جاءت بالجملة الاسمية، وهي من أساليب التوكيد، وهي نفسها مؤكدةٌ بـ(إنَّ)، والمتقدم فيها الخبرُ شبهُ الجملة، الظرف على الاسم:(ربي)، وقدَّم الخبر؛ للاطمئنان، ولمزيد من التهدئة للقلوب الوجلة، الخائفة، وفتح ياء المتكلم:(مَعِيَ) التي أصلها التسكين، وجاء بـ(ربي)، وليس بـ(إلهي)، فالمقام مقامُ حنوٍّ، وحدبٍ ومقام تربيةٍ، وحنان، ومقام عطفٍ، وحماية، ولحظاتُ عناية ورعاية، كما أسند ياء المتكلم إلى:(رب) للتشريف، وكمال الانتساب، وبيان دقة الاعتماد، وكمال الوصال، وجاء بحرف السين التي تفيد المستقبل القريب، ولم يستعمل (سوف) التي وُضِعَتْ للبعيد؛ ليبين لهم سرعةَ عنايةِ الله، وتعجُّلَ رعايتِه، والفعل (يهدين) فعلٌ مضارعٌ يفيد الاستمرار، وحُذِفَتْ ياء المتكلم؛ اجتزاء بكسرة النون، والأصل:(سيهديني)، والآية كلها كناية عن عناية الله، وقيوميته، ورعايته بأنبيائه، ورسله، وعباده الصالحين، وأنهم وَاعُونَ لذلك، مطمئنون عليه؛ ولذلك فإن الله سبحانه في الحال أمر نبيَّه موسى (عليه السلام) أن يضرب البحر فقط بعصاه؛ ليريه صدقَ اعتقادِهِ في ربه، وسعةَ إيمانِه بقدرة مولاه، فلما ضرب البحرَ بالعصا صار يابسًا، وتكوَّن منه جبل ضخم سماه القرآن الكريم الطود العظيم، بل نتج عن ضرب العصا جبال كثيرة، قال تعالى بعد تلك الآيات مباشرة في سورة الشعراء: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68).

انفلاقٌ فيه العظمة، ويكشف عن القدرة، فكلُّ فرق كان كالطود العظيم، أي كالجبل الضخم، وهو كناية عن تثبيت القلوب، فهم يسيرون على الجبل، وهو الذي يُضرَب مثلًا في تثبيت الأرض، وهي الجبال، ثم إنها جبالٌ، وليس جبلًا واحدًا؛ إمعانا في التثبيت، وعمقًا في تهدئة القلوب، فأنجى الله موسى، ومن معه أجمعين، أيْ لم يغرَقْ منهم أحدٌ مطلقًا، ولكنَّ فرعونَ، وجميعَ مَنْ معه من الهالكين قد أغرقهم الله، وماتوا شَرَقًا وغَرَقًا، فما استطاع المتألِّه، الضعيف، فرعونُ أن ينقذ نفسَه، بَلْهَ أن ينقذهم، وطواهم النسيان، وذكرهم القرآن الكريم بالغيبة، وكأنهم غير موجودين، قال تعالى:(وأزلفنا ثم الآخرين)، (ثم أغرقنا الآخرين)، وهو كناية عن حقارتهم، وصغَر حجمِهم، وعدمِ رؤيتِهم، وجعلها الله آيةً لكل مَنْ تسوِّل له نفسُه أن يتأله على الله، ويأمر الناس بعبادته، ويَنْسَى الخالقَ الحقيقيَّ للكون، مَنْ يدبِّر أمره، ويهيمن على ملكه، ولا يمكن أن يتخلى عن أوليائه، وأحبائه، وأنبيائه، والمؤمنين به- سبحانه، سبحانه!،وحتى يطمئن كل ملتزم، مؤمن، عالم بربه، وقدرته على كل كونه

هكذا عملتِ اللامُ عملَها، وأدَّتْ مهمتَها، وكشفتْ عن جمالِ وجودِها في هذا السياق، وكمال معناها في هذا الموقف، وجلال مؤدَّاها في تلك القيمة العقدية المَهيبة.

هكذا بَدَتِ الآياتُ كاشفةً بأصواتِ حروفِها، وكيفيةِ خروجِها عن معانيها، ودلالاتها، ومقاصدها، ومراميها؛ ومن ثم، نلحُّ على أنه يلزمُ القارئَ للكتاب الكريم أنْ يقفَ على تلك الحروفِ، ومعانيها، ويتأملَ في سببِ إيرادِها في تلك الدلالاتِ، وهذه المَقَامَاتِ، وهاتيك السياقات؛ ليدركَ عظمةَ الكتاب الكريم، وأنَّ كلَّ ما فيه حتى حروف كلماته، التي تبنى منها الألفاظ، إنما هو أمر معجز، وأنه كلامُ اللهِ، ربِّ العالمين، معجزٌ في حروفه، وكلماته، وعباراته، وجمله، وأساليبه، وكلِّ تراكيبه.

ونواصل الحديثَ عن نماذج أخرى لصوت اللام، وما تُحدِثه من جمالٍ، وجلال، وكمال في المعاني الإيمانية، والدلالات القرآنية.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية