في ظلِّ معطيات الحالة العُمانيَّة، والأولويَّات الوطنيَّة الَّتي تسعَى رؤية «عُمان 2040» لتحقيقِها في مَسيرة التَّحوُّل الشَّامل، وفي ظلِّ جملة من الملفَّات الَّتي باتَتْ تُشكِّل اليوم هاجسًا وطنيًّا في ظلِّ تزايد تأثير المتغيِّرات الاقتصاديَّة وانعكاساتها على الأمن الاجتماعي والسَّلام الدَّاخلي للفرد، وما أسفرَتْ عَنْه هذه المعطيات من تحدِّيات فكريَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وتحدِّيات ترتبط بالقِيَم والسُّلوك والاهتمامات والنَّزعات الدَّاخليَّة، والصُّورة القاتمة الَّتي ارتبط بها في ارتفاع عدد الجرائم وتنوُّعها وتصدُّر الجرائم الواقعة على الأموال نسبة ممارسة الجرائم في سلطنة عُمان، أو الظَّواهر السّلبيَّة وسرعة انتشارها، أو الظَّواهر المُجتمعيَّة الَّتي باتَتْ تؤثِّر سلبًا على النَّسيج الاجتماعي في ظلِّ ارتفاع مُشْكلات الطَّلاق، والخلع، والزّواج من الخارج، والعلاقات الأُسريَّة والاجتماعيَّة، أو حالة التَّساهل في الالتزامات الماليَّة والاقتصاديَّة، الأمْرُ الَّذي أدَّى إلى رفعِ درجة القلقِ الاجتماعي بشأن السَّمْتِ العُماني، والثِّقة بَيْنَ أبناء المُجتمع، وما ارتبط بالوضعِ الاقتصادي من تحدِّيات بَشَريَّة ارتبطت بارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من أعمالهم وغياب القدرة التَّمكينيَّة للقِطاع الخاصِّ في توليد الوظائف واستدامتها.. كُلُّ ذلك وغيره باتَ يفرض اليوم على الحكومة تحقيق المزيد من المراجعة والتَّصحيح للكثير من المسارات والممارسات، وهو أمْرٌ جاءت رؤية «عُمان 2040» من أجْلِ تحقيقه، بما يضْمَن تناغم وتجدُّد القوانين والتَّشريعات وقدرتها على التكيُّف مع معطيات الحالة العُمانيَّة.
وبالتَّالي ما يتوقع أن يترتبَ على هذا الحراك الوطني في أشكاله المختلفة وتنوُّعه، من موَجِّهات فكريَّة، وتباينات في الأفكار والآراء المطروحة من قِبل المواطنين المستهدَفين من هذه الخطط والبرامج التَّنمويَّة من مختلف فئات المُجتمع، الأمْرُ الَّذي سيُسهم في تقديم صورة تكامليَّة تقرأ الأمْرَ في إطار من التَّوازنات الفكريَّة الَّتي تتَّجه إلى نهج التَّطوير والتَّجديد وتبرز في أهدافها روح التَّغيير، وتعظيم صناعة التَّحوُّل القادم الَّذي سيَسري في كُلِّ جونب العمل الوطني. على أنَّ ما قدَّمته التِّقنيَّة ومنصَّات التَّواصُل الاجتماعي من فرصٍ أكبر لتبادُلِ المعلومات وتداول الأفكار وسرعة انتشارها، وتنوُّع الخبرات وفرص إبداء الرَّأي والَّتي باتَتْ تَجدُ في هذه المنصَّات مساحات أكبر للتَّعايش الفكري والحوار المعرفي والتَّكامل الخبراتي وتبادُل التَّجارب، الَّتي تُسهم في تغيير الممارسات الحاصلة وإعادة إنتاجها بما يتناغم مع متطلَّبات المواطن واحتياجاته، ويُلبِّي التَّوَقُّعات الوطنيَّة من تَبنِّي هذه الموَجِّهات والمسارات.
وعَلَيْه تبرز مسألة التَّعاطي مع المنتج الفكري اليومي للمواطن، وما يحمله من فرصٍ للتَّطوير والنَّقد والتَّصحيح ومساحة للتَّفكير والنظر وتعديل القرارات وتغيير مسار العمل، منطلقًا يُضفي على عمليَّات التَّطوير والتَّجديد بُعدًا استراتيجيًّا تحتكم فيه إلى نتائج التَّشخيص والتَّحليل للواقع، والتَّوَجُّهات الَّتي تضع المستقبل أمام قراءات معمَّقة، ومنهجيَّات تعترف بقِيمة المعرفة الرَّصينة، كمدخلٍ للتَّجديد والتَّطوير والانفتاح على المُستجدَّات الحاصلة في عمل المؤسَّسات، والاستفادة ممَّا أنتَجَه الفِكر البَشَري من أساليب المعرفة والتَّجارب القائمة على الإبداع والابتكار والتَّحليل والاختراع لبناء أرضيَّات صلبة تُعزِّز من كفاءة وجودها، ونُمو إنجازاتها، وتقدُّم أدواتها، واتِّساع مهامها، وتؤصِّل فيها مساحات أكبر للبحثِ عن الجودة والابتكاريَّة، وتحقيق النُّمو في الأداء والكفاءة في المنتج المؤسَّسي، وبالتَّالي يُصبح تعاطي المؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة مع ثَورة الأقلام المُضادَّة والَّتي تَحْمل فكرًا نقديًّا ومسارًا تصحيحيًّا ومنهجًا في إعادة تصحيح الممارسة وبناء منظومة العمل المؤسَّسي لِتتناغمَ مع المعطيات الجديدة والمهام والاختصاصات الَّتي أفرزتها الحالة الوطنيَّة وعمليَّات إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدَّولة والصُّورة المُثلَى الَّتي يجِبُ أن تقدِّمَها في مسار المرونة والابتكار والإنتاجيَّة، وعِندها يُصبح تفاعل المؤسَّسات مع المنتج الفكري للأقلام الصحفيَّة والمُغذِّية للمنصَّات الاجتماعيَّة أو غيرهم من صنَّاع الكلمة والمُحتوَى الرَّقمي، معيارًا اجتماعيًّا يقيسُ عُمق المهنيَّة الفكريَّة والشَّراكة المعرفيَّة الَّتي تعتمدها المؤسَّسات، والحوارات الفكريَّة الَّتي تُتيحها، لبناء رأي مشترك، وصياغة سيناريوهات مُتعدِّدة تأخذ بالمؤسَّسات إلى جادَّة الصَّواب، تستشرف من خلاله مستقبل الأداء، وتسترشد به نَحْوَ بلوغ مرحلة الاستدامة والتَّنافسيَّة.
من هُنَا فإنَّ ما تشهده الحالة العُمانيَّة من تَحوُّلات، وتستهدفه من أولويَّات فرصةٌ لبروزِ الكثير من الكتابات والأقلام والآراء عَبْرَ مختلف الوسائل والوسائط الإعلاميَّة المقروءة والمسموعة والمرئيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة وأصحاب الكلمة وصنَّاع المحتوى الرَّصين، في إثراء المُحتوَى المؤسَّسي، وإعادة إنتاجه، وأن تتَّجهَ المؤسَّسات ذاتها إلى الاستفادة من الفرص الحواريَّة والمنصَّات الإعلاميَّة التَّواصليَّة التَّفاعليَّة في سبيل بناء رؤية مشتركة للعمل المؤسَّسي المنتج، وصياغة جديدة لمعطيات المرحلة، الَّتي إن لم يتمَّ التَّعاطي مع كُلِّ إرهاصاتها وتناقضاتها، بفكرٍ مستنيرٍ ورؤيةٍ معمَّقة وتوَجُّهٍ صائب وخطوات عمليَّة راقية، سوف يكُونُ لها تداعياتها في مستقبل عمل المؤسَّسات، فتغرِّد خارج السِّرب، وهو أمْرٌ سيكُونُ له انعكاساته السّلبيَّة على منظومة الأداء ومستوى تفاعل الرَّأي العامِّ مع ما تتَّخذه المؤسَّسات من توَجُّهات تطويريَّة، أو في قدرتها على إيصال رسالتها إلى المُجتمع ومستوى تفاعله معها، والصورة الأخرى لهذه العلاقة الَّتي يبدو في حالة من التَّشويه وعدم الثِّقة.
عَلَيْه، كان من الأهميَّة أن تتداركَ المؤسَّسات هذا المسار، وتعملَ على استيعابه وفَهْمِ المدركات المرتبطة بها في سبيل كسب ثقة الجمهور وتعظيم الصورة النَّوعيَّة للحوار الاجتماعي المهني المشترك والقِيمة المضافة الَّتي يُحقِّقها على منظومة الأداء، فإنَّ توظيف الثَّقافة المُضادَّة (وهي تلك الثَّقافة المُنطلِقة من فِكر التَّجديد المؤسَّسي والمتوافقة مع رؤية التَّطوير الشَّامل) بمثابة جوهر التَّغيير ومنطلقٍ للتَّطوير وسبيل تحقيق مستهدفات رؤية عُمان في القِطاع الَّذي تعمل المؤسَّسة عَلَيْه، بل الطَّريق الَّذي يجِبُ أن يسلكَ من أجْلِ عمل وطني مشترك، وجهد مؤسَّسي ملموس، وتحوُّل نَوْعي حقيقي يبتعد عن الشكليَّات والمزاجيَّات لِيصبحَ ثقافة مؤسَّسيَّة وإطارًا وطنيًّا تعمل المؤسَّسة على حوكمته وتنظيمه وترقية مساراته، ليس فقط في زيادة المنصَّات والمنابر الحواريَّة الإعلاميَّة الَّتي تطلُّ بها المؤسَّسات على الجمهور والرَّأي العامِّ وتَعدُّدها وسرعة الرَّدِّ على التَّساؤلات المطروحة من المستهدفين من خدمات المؤسَّسات؛ بل أيضًا في التَّعامل مع أي نقد يسعَى لتطوير المؤسَّسة، ويوجِّهها إلى الأولويَّات، ومستوى تقبُّل الأفكار المطروحة والنَّقد المُعزَّز بالإحصائيَّات والمؤشِّرات، في إطار من الشَّفافيَّة والوضوح المُعزَّزة بالموضوعيَّة والمنهجيَّة العلميَّة والمصداقيَّة البحثيَّة، ليتعدَّى الأمْرُ إلى التزام المؤسَّسات عقيدة الوفرة، وقَبول المطالبة بالحقوق والاستحقاقات الَّتي يوجبها القانون للمواطن العامل في المؤسَّسة أو المستفيد من خدماتها في إطارٍ من الحقِّ والعدْلِ والمساواة.
أخيرًا، فإنَّ قَبولَ منطقِ ثَورةِ الأقلام والأفكار الإعلاميَّة المُضادَّة المطروحة عَبْرَ مختلف الوسائل الإعلاميَّة المتنوِّعة والمنصَّات الاجتماعيَّة، في إطار حياديَّة الطَّرح وموضوعيَّة النِّقاش، وبناء على حقائق ومؤشِّرات ونتائج الفعل المؤسَّسي وتقارير الأداء واستطلاعات الرَّأي ونتائج الحوارات واللِّقاءات والإحصائيَّات والتَّقارير الوطنيَّة والدّوليَّة، يؤكِّد الحاجة إلى أن تتبنَّى المؤسَّسات مفهومًا أعمقَ للتَّعايش الفكري وتعظيم المنتج الفكري القائم على حوكمة الحوار الاجتماعي، وتَبنِّي نماذج عمليَّة في التَّشخيص والرَّصد والتَّحليل والعُمق في قراءة مهام واختصاصات المؤسَّسات وآليَّة العمل، الأمْرُ الَّذي سيُقلِّل من الصَّدمات الفكريَّة، والفجواتِ التَّطويريَّة، ويضْمَن سرعة الاستجابة الوقائيَّة في التَّعامل مع هذه المعطيات، وفي الوقت نَفْسه الارتقاء بمستوى الطَّرح والانتقاء والاختيار لهذه الموضوعات بحيث تتَّجه هذه الأقلام والأفكار نَحْوَ نُموِّ ثقافة النَّقد المتوازن البعيد عن التَّكلُّف والشَّخصنة للأحداث وتحجيم النَّقد في شخص المسؤول أو الموظَّف، لِيتَّجهَ الأمْرُ إلى نقد الفعل المؤسَّسي وتحليله ودراسته في إطار منهجيَّة واضحة وعقليَّة متفتِّحة، والَّذي تجدُ فيه المؤسَّسات فرصتها للاستفادة من المنتج الفكري المطروح... فهل ستصنع مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة من الحوار الاجتماعي والتَّعايش الفكري وجملة المنصَّات الإعلاميَّة الَّتي أتاحتها الحكومة لطلَّة المسؤول الحكومي في حوارات مباشرة مع المواطن وعَبْرَ برامج إعلاميَّة متفرِّقة مِنْها «معًا نتقدم» وجملة البرامج الإعلاميَّة المباشرة مع المسؤولين الحكوميِّين الَّتي قدَّمتها الإذاعات الخاصَّة في شهر رمضان وغيره، مرحلة مُهمَّة في تصحيح المسار وتعظيم منهج قَبول الرَّأي والرَّأي الآخر، والاعتراف بالأقلام الموضوعيَّة والآراء النَّزيهة الَّتي تقرأ الواقع بعُمقٍ وتُحلِّل مساراته بمهنيَّة؛ باعتبارها جوهر التَّغيير النَّوْعي القادم الَّذي تحتاجه عُمان المستقبل للانتقال بالجهاز الإداري للدَّولة إلى الابتكاريَّة والإنتاجيَّة؟
د.رجب بن علي العويسي