الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

كمال البشرية بمولد خير البرية «3»

الأربعاء - 25 سبتمبر 2024 04:10 م
20

.. وشبه الجملة:(من أنفسكم) فيه كناية عن بشريته، وكونه من غمار الناس، وأنه ليس فوقهم، وإنما هو بشر مثلهم، لكنه فاقهم بأخلاقه السامية:(وإنك لعلى خلق عظيم) ومن ثم فما جاء بما يمكنهم القيام به، دون أدنى تعب، أو أقل مشقة.

وفي الوقت نفسه فيه تيسير عليهم، بأن بشرًا اختاره اللهُ منهم، قام بكل تلك الدعوة، وبذل أقصى ما أمكنه حتى أنار الكونَ بسيرته المطهرة، ومسيرته المعطَّرة، فلا حجةَ عندئذ لأحدٍ من البشر بأن يزعم أن الإسلام دينٌ صعبُ الالتزام، وكثيرُ التكاليفِ، والمشقات، ولكنْ يسهل عليهم جميعًا القيامُ بمتطلباته وأحكامه.

وفي قراءة:(رسول من أَنفَسِكُمْ) بفتح الفاء، وكسر السين، أي: من أنقاكم معدنا، وأنفسكم نفسًا، وأشرفكم معدنا، وأعلاكم قدرا، وأشرفكم مقاما، من النفاسة والشرف، والعلو، والسمو.

وقوله:(عزيزٌ عليه ما عنتم)، فـ(عزيز) هو صفة مشبهة، تبيِّن ثبات تلك الصفة، واستمرارها، وأزليتها، فإن عنتكم، وهلاككم يعز عليه، ويُحْزِنه؛ لحبه إياكم، ولشدة حرصه عليكم، وعلى ألا تهلكوا بكفركم، وبُعْدِكُمْ عن ربكم.

فـ(ما) موصولة، أو مصدرية، والمعنى أن عنتكم عزيز عليه، ويحزنه، ويبكيه؛ لشدة حرصه عليكم، وعلى ألا تضيعوا في هذه الحياة بين العادات، والتقاليد البالية التي لا علاقة لها بدين، وهي من إفرازات الخلق، وتآليف البشر، واهتراءات العقل

والفعل:(عنت) يفيد التعب، والمشقة، والضنى، والإرهاق؛ جَرَّاءَ تِيهِهِمْ، وبعدهم عن ربهم، فقد جاء الرسول الكريم لرفع ذلك العنت، ومحو ذلك التيه، وإبعاد هذا العنت، والجهل عنهم برسالته السمحاء، ودينه الميسر، وسيرته المباركة.

وهناك محذوف، تقديره:(ما عنتم فيه، وبسببه، ولأجله)، وهو مفهوم من السياق، ومعلوم بقليل من التأمل والنظر.

وقوله:(حريص عليكم) هو كناية عن شدة الحب، وكمال الإخلاص في العمل، فهو شديدُ الحرص، وحرصُه متواصلٌ؛ لأن (حريص) على وزن (فعيل)، وهي من أوزان الصفة المشبهة، التي تفيد استمرار النعت، وتواصل الحكم، وأزلية هذا الوصف، وحرف الجر:(على) يبين أنه من شدة حرصه كأنه ظُلَّةٌ تظللكم، وغيمةٌ جليلة تحميكم، كما الأبُ الحاني يظلل على عياله، ويحميهم من كل مكروه، وسوء، ويتحمل عنهم كلَّ ما يؤذيهم (صلى الله عليه وسلم)، فمن شدة حرصه كاد يهلك نفسه، كما ذكر القرآن الكريم في قوله:(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف ـ 6)، فهو يكاد يُميتُ نفسه حرصا عليه، وحماية لهم، ودفاعا عنهم، ونصحهم في كل عمل.

والضمير(كم) في: (عليكم) يفيد حرصه على كل المؤمنين، وهو كناية عن سعة الحب، وشمول الود لكل من آمن بالله تعالى، ورضي به ربًّا، وإلهًا، ومولًى.

وقوله:(بالمؤمنين رؤوف رحيم) فيه عارض تركيبي بالتقديم؛ حيث قدَّم شبه الجملة: (بالمؤمنين)؛ لبيان مكانتهم، وسموِّ قدرهم، وللتعجيل برأفته بهم، وعلو قدرهم بالتقديم الذي يفيد الاهتمام، وتعجيل المسرة، والجمع (بالمؤمنين) يشي بكثرتهم، ودخولهم جميعًا في رأفته، ورحمته (صلى الله عليه، وسلم).

و(رؤوف ورحيم) بوزن:(فَعُول وفَعِيل) من أوزان الصفة المشبهة التي تفيد الثبات، والدوام، والأزلية، والسرمدية، وأن تلك الصفات ملازمة، ومزاملة لشخصه الشريف، لا تنفك عنه، ولا تروح منه، بل هي تمشي معه كظله الشريف أينما كان، وحيثما ذهب، وتظل معه طيلةَ حياته، وبعد مماته في سيرته العطرة، وفي كل مكان، وزمان وُجِدَ فيه، وتنكيرها يعني شمولها كلَّ ألوانِ الرأفة، والرحمة التي خلقها الله، فهو (صلى الله عليه وسلم) رؤوفٌ بكل معاني الرأفة، ورحيمٌ بكل معاني الرحمة، وأن تلك المعاني بتمامها لا تفارقه، ولا تذهب عنه في أيِّ زمان، أو أي مكان، وهي جزءٌ لا يتجزأ منه، ومن أخلاقه، وسلوكياته الفطرية.

وبعدُ، فالناظر في تلك الآية الكريمة يجدُ أوصاف الله تعالى قد وردتْ فيها عدة أساليب، منها أسلوب القسم، وأسلوب التحقيق، وأسلوب الوصف المتتابع، وأسلوب التقديم، والتأخير، ودخلتها من المشتقات الصفاتُ المشبَّهة، وهي ما يُشْتَقُّ من الفعل للدلالة على الثبات، والدوام، والاستمرار، فاختيرت كذلك لتبين ثباتها، واستمرارها فيه، وقد دخلتْها حروفُ المعاني، وماسكتْ بين أواصر الآية، ومنها (اللام) الواقعة في جواب القسم، و(قد) التحقيقية، وحروف الجر:(من وعلى والباء)، وكلُّ حرف منها قد أدَّى مهمته الدلالية، وعَمَّقَ ما بين أركان الآية، وأسهم إسهامًا كبيرًا في تماسكها، وترابط كلماتِها؛ ومن ثَمَّ ترابط معانيها، وكمال مبانيها، وخَرَجَتِ الآيةُ مبينةً أوصافَ الرسول الكريم، وواضعةً تلك النعوتَ موضعَها الكريم، وبيَّنت بكل وضوح قلبَه الشريفَ، وخلقَه النبيلَ، وكم وضَّحت جليلَ صفات الله له، وكريمَ نعوتِ مولاه إياه (صلى الله عليه وسلم).

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية