السبت 12 أكتوبر 2024 م - 8 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

كمال البشرية بمولد خير البرية «1»

الأربعاء - 11 سبتمبر 2024 04:23 م
50

جاء ميلادُ الرسول الكريم فتحًا على الكون، ونورًا، وضياءً على الإنسانية جمعاءَ؛ حيث أعادَ للبشرية إنسانيتَها، وكمالَ بشريتها، بعدما أذيقَتْ من بعضها ويلاتِ الاستعباد، وأيامّ الذل الذي رأتْه في كثير من جَنَبَاتِ الأرض، سواء النساء، أو ممَّنْ يوصفون بالدهماء، والعامَّة، حيث استعبدهم الأثرياءُ، واستخدمهم الأغنياءُ، وكانوا يباعون، ويُشتَرون في كثير من أركان الأرض، وكان كثيرٌ من المتغطرسين، كفرعونَ، وهامانَ ومن لف لفهما يستعبدونهم من دون الله، حتى قال فرعون: (ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري)، وقال:(أنا ربُّكم الأعلى»، وأذاق الناسَ ويلاتٍ، وويلاتٍ، جاء في كتاب الله:(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى، قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) (طه 70 ـ 71).

فالعالم كله كان يرزح تحتَ نِيرِ الظالمين، واستعباد الظلمة المتحكِّمين في الخلق، خدمةً، واستعبادًا، وإذلالا لهم، وإجهادًا، وانتقاصا من آدميتهم، ومكانتهم، فجاء الإسلام، وقال اللهُ ربُ الناس:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الاسراء ـ 70).

جاء ميلاد الرسول ليسوِّيَ بين الخلق: كبارًا وصغارًا، سادة وعبيدًا، رجالًا ونساء، بيضًا وحمرًا وسودًا، أغنياء وفقراء، شرقًا وغربًا، فانساح الناس دخولًا في دين الله أفواجًا، وسارعوا إلى الإيمان بالله، ورسوله، وتعمَّقوا في فهم مطالب الدين، وحَسُنَ إسلامُهم، وراحوا ينشرون هذا الدينَ الإسلامي، ويدافعون عنه؛ لأنه أعطاهم آدميتَهم، وأعاد إليهم إنسانيتَهم، ووسَّدهم كرامتَهم التي دِيسَتْ رَدْحًا كبيرًا من الزمن؛ ولذلك رأينا هناك بعضَ الرموز، والإرهاصات، والإشارات التي حَدَثَتْ إبان مولده الشريف، وتدل على رفع الظلم، وانتهاء حِقبة الاستعباد، وزمن الذل، وانتهاكِ كرامةِ البشر، مثل حادثة الفيل التي بَيَّنَتْ أنه لا يستطيع أيُّ شخص مهما كانت قوته أنْ يَمَسَّ بيت الله الحرام، متعبَّد الناس لربهم، وإلا سُوِّيَ بالأرض، وما بقي على ظهر البسيطة يومًا واحدًا، قال تعالى:(ومن يُرِدْ فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب السعير)، وقال الله مسجِّلا حادثة الفيل، وانتهاء الظلم ونهاية الظالمين:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل 1 ـ 5)، وتتالتْ أقوالُ العلماء، وكتاباتُ المؤرخين وأصحابُ السير في وصف الميلاد بتلك البشارات والإرهاصات، والعلامات.

قال الإمام الماوردي: (آياتُ الملك باهرة، وشواهدُ النبوة ظاهرة، تشهد مبادِيها بالعواقب، فلا يلتبس فيها كذبٌ بصدق، ولا منتحِلٌ بحق، وبحسب قوتها، وانتشارها يكون بشائرها، وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعاطرت آيات نبوته، وظهرتْ آياتُ بركته، فكان من أعظمها شأنًا، وأشهرها عيانًا، وبيانًا أصحابُ الفيل)، وقال ابن كثير:(هذه من النعم التي امتنَّ الله بها على قريشٍ فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة، ومحو أثرها من الوجود، فأبادهم الله، وأرغم آنافهم، وخيَّب سعيهم، وأضلَّ عملهم، ورَدَّهم بشرِّ خيبةٍ، وكانوا قومًا نصارى، وكان دينُهم إذ ذاك أقربَ حالًا مما كان عليه قريش من عبادة الأصنام، ولكنْ كان هذا من باب الإرهاص، والتوطئة لمبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه في ذلك العام وُلِدَ على أشهر الأقوال)، وقال الإمام ابن تيمية:(وكان جيرانُ البيت مشركين يعبدون الأوثانَ، ودينُ النصارى خيرٌ من دينهم، فعُلِم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجلِ جيرانِ البيتِ حينئذ، بل كانت لأجلِ البيتِ، أو لأجلِ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذي وُلِدَ في ذلك العام عند البيت، أو لمجموعهما، وأيّ ذلك كان، فهو من دلائل نبوته).

ومنه ما تداولتْه كتبُ السيرة عند وضع أمه له من خروج نور من حَمْلِ أمِّهِ به، هذا النور أضاء قصورَ الشام؛ إيذانا بزوال الظلم، وإشاعة العدل في جنبات الأرض

فعن لقمان بن عامر، قال سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَة يقول: (قُلْتُ يَا نَبِيَّ الله ما كان أَوَّلُ بَدْءِ أَمْرِك؟. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشْرَى عيسى، ورأتْ أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام) (رواه أحمد في مسنده، والحاكم، وصححه الألباني)، وقال ابن كثير: (قوله : «ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام»، قيل: كان منامًا رأتْه حين حَمَلَتْ به، وقَصَّتْه على قومِها، فشاع فيهم، واشْتُهِرَ بينهم، وكان ذلك توطئة)، وقال ابن رجب:(خروج هذا النور عند وضعه؛ إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهلُ الأرض، وأزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى:»قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة15 ـ 16)، وقال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف ـ 157.(

كما كان ظهورُ نجمِ أحمدَ ـ عليه الصلاة والسلام ـ في السماء دليلًا على ولادته، حيث ظهر نجمٌ له سماتٌ خاصةٌ، تختلف عن غيره من النجوم، كما ذكرتْ كتبُ السيرة، عَرَفَ اليهود عند ظهوره ـ كما في توراتهم ـ أنه قد وُلِدَ الرسولُ الكريمُ.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية