الأربعاء 15 يناير 2025 م - 15 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

رحاب : أبراج الوهم

رحاب : أبراج الوهم
الاثنين - 09 سبتمبر 2024 07:00 م

د ـ أحمد بن علي المعشني

20

كان (س) يعمل موظفًا في إحدى المديريات الحكومية في محافظة ظفار في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وكان يجمع بين العمل في الصباح والدراسة في المساء، وعندما كان يرجع إلى منزله بعد العمل يتناول غداءه، ثم ما يلبث أن يذهب إلى المدرسة السعيدية الثانوية في الدهاريز مُكملًا مشوار تعليمه في برامج تعليم الكبار التي كانت سارية في تلك الأيام.

وقد استفاد منها عدد كبير من الموظفين كبارًا وصغارًا، كان ذلك الشاب مسكونًا بهاجس المستقبل فقط، ولم يكن يبذل جهدًا جيدًا في وظيفته، فقد كان يعدُّها عبورًا يجتازه إلى المرحلة الجامعية التي يستطيع بعدها تغيير كادره الوظيفي.

وتبعًا لذلك كان رئيس القسم يحاول بشتَّى الطرق والأساليب أن يقنعه بأنه موظف، يعمل في تلك الوظيفة وفي ذلك القِسم وأن تلك الساعات التي يقضيها في الوظيفة هي ملك للمؤسسة، وأن من يستغلها في غير مجال العمل يكون كمن يسرق أموالًا عامة.

وبالتالي لا يجوز استهلاك ساعات العمل في مذاكرته أو في كتابة واجباته، وأن المؤسسة عيَّنته موظفًا ولم تعيِّنه طالبًا، وأن الشخص المجتهد المخلص يستطيع الجمع بين الإثنين العمل والدراسة دون إلحاق الضرر بالوظيفة.

كان الجدال يحتدم باستمرار بين رئيس القِسم وبين ذلك الموظف إزاء هذا الفهم الذي يتشبث به (س) الذي كان يعطي من وقته سويعات قليلة فقط لوظيفته الإدارية ثم يقضي بقية وقته في مراجعة دروسه أوفي التجول بين المكاتب وأحيانًا في قراءة الملاحق الرياضية.

استمر الوضع على ما هو عليه حتى تخرج (س) من المرحلة الثانوية ثم التحق بالجامعة على نظام الابتعاث الخارجي.

مضت سنوات الدراسة الجامعية بسرعة ثم عاد إلى المديرية بدرجة بكالوريوس تخصص إدارة عامة، وبناء على ذلك أعيد تسكينه في قِسمه بوظيفة باحث شؤون إدارية، ولكنه منذ اليوم الأول لدوامه بدأ يفكر بالمستقبل دون أن يركز على الحاضر، فأصبح يتردد على مكتب المدير العام يطلب منه ترفيعه إلى وظيفة أعلى من وظيفته، فكان المدير العام يطلب منه أن يعمل بكفاءة حتى يصبح جديرًا بالترقية، وأن الوظيفة هي تكليف وليست مغنمًا يطلبه، لكنه لم يكن يقتنع.

وقد تمادى في إزعاجه حتى صار نشازًا في المديرية بدلًا من أن يصبح رافدًا للتطوير والتجديد والإنتاج، وعندما يأس المدير العام من اقناعه بالمنطق، كلفه بمهام من شأنها أن تصقل خبراته وتجعله جديرًا بالترقية، ولكنه لم يكن يركز على تلك المهام وكان يتقالها ويعدُّها أقل من مستواه، فهو خريج جامعة وعدد الخريجين في تلك الأيام كان محدودًا جدًّا. وبالتالي فقد صار يمضي وقته في قراءة الكتب والصحف وتارة يتردد جيئةً وذهابًا على مكاتب المسؤولين الذين كان يعدُّهم أقل منه تعليمًا وكفاءة، وكأنه الوحيد الجدير بمناصبهم. أسرعت به أخطاؤه حتى تمَّت إحالته بقرار إداري إلى لجنة تحقيق، تذكرت قصة (س) وأنا أدرب مجموعة من المشاركين في دورة (مستويات الوعي) فمن الناس من يعيش الماضي ويجعل تركيزه كله عليه، ومنهم من يعيش الحاضر بكل كفاءة وإنتاج، وهناك فئة تهرب من الحاضر إلى المستقبل في سفينة أحلام اليقظة التي تسرق طاقاتهم وتركيزهم وتجعلهم يعيشون في أبراج الوهم.

د. أحمد بن علي المعشني

 رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية