لقد مرَّ وقتٌ طويل منذُ العقود الأخيرة من القرن الماضي، إذ لم يكُنْ بإمكان أيِّ شخصٍ أن يحصلَ على القليل من الحلوى وقتَما أراد. وكان يوم العمل وقائمة الطَّعام والسَّاعة الاجتماعيَّة موَجَّهين حَوْلَ وجبات الطَّعام، ولم يكُنْ من المفضَّل تناول الطَّعام بَيْنَها: رُبَّما كان للأطفال آنذاك تذكيرهم بأنَّ تناوُلَ الوجبات الخفيفة (والسَّريعة) يُسبِّب لك تسوُّس الأسنان ويُفسد شهيَّتك ـ على سبيل المثال. بل ورُبَّما كانتِ الفصولُ الدِّراسيَّة بالمدارس وبشكلٍ عامٍّ، هي المكان الَّذي تقرأُ فيه، وتتعلَّمُ، ولكنَّك بالتَّأكيد لم تأكلْ فيه!
وهكذا سنُلاحظ أنَّه في آخر عَقدَيْنِ، لم نَعُدْ نتناول الطَّعام بَيْنَ الوجبات فحسب، بل أصبحنا نتخلَّى عن تلك الوجبات الصحيَّة الكاملة، وأضحى تناوُلُ الوجبات الخفيفة السَّريعة هو الطَّاغي على هذا الجيل! والآن أصبحتِ الوجبةُ الخفيفة والسَّريعة هي الوجبةَ الكاملة. لقد تحوَّلتْ وجَبات الإفطار والغداء والعشاء، الَّتي كانت ذاتَ يومٍ إيقاعَ تجمُّع الأُسرة، إلى نوادر، ولَعلِّي أقول ـ إنْ صحَّ لي ـ بأنَّه قد أُعيدَ توجيه الحياة الاجتماعيَّة والغذائيَّة أمامَ أعْيُنِنا، وأُعيدَ تشكيلُها لِتُناسبَ عالَمًا مختلفًا تمامًا عمَّا كان عَلَيْه من قَبل!
بطبيعة الحال، اللَّحظة الَّتي نعيشُها اليوم مع الوجَبات الخفيفة والسَّريعة، يُمكِن أن تعُودَ أصولُها بسلطنة عُمان إلى التسعينيَّات أو قَبل ذلك بقليل، حيث تصادمتِ الاتِّجاهات الثَّقافيَّة والاقتصاديَّة لِتبدأَ طفرةُ الوجَبات الخفيفة الَّتي لم تهدأْ أبدًا. وفي الوقت نَفْسه، بدأ النَّاس في قضاء وقتٍ أقلَّ في المطبخ. وانضمَّتْ أخواتُنا وبناتُنا إلى القوى العاملة في مَسيرة النَّهضة. فكان الأطفال أحيانًا أكثر عرضةً للبقاء في المنزل بمفردهم بعد المدرسة، ورُبَّما آنذاك بدأ الآباء في تشجيعِ تناوُلِ الوجَبات الخفيفة للتَّأكُّد من أنَّ الأطفالَ تناولوا ما يكفي من الطَّعام خلال اليوم الَّذي أصبحَ فجأةً أكثر انشغالًا للجميع. وهكذا نشأَ الأطفالُ على الوجَبات الخفيفة، وأصبحتِ الوجَباتُ الخفيفة جزءًا من مرحلة الشَّباب.
وهُنَا وبشكلٍ جدِّي، ندركُ جميعًا بأنَّ الأطعمة الخفيفة والسَّريعة تلك، تميلُ إلى أن تكُونَ مصنوعةً من مُكوِّنات غير مكلفة (الذّرة وفول الصويا والبطاطس) وتُباع بسعرٍ مرتفع. وبدَتْ وكأنَّها الحلُّ الرَّخيص لمُشْكلةٍ أساسيَّة تُواجِه صناعة المواد الغذائيَّة. وإذا ما تحدَّثنا ـ بشكلٍ صريح ـ لا بُدَّ أن نعيَ بأنَّ هذه الوجَبات الخفيفة تمَّ صنعُها باستخدامِ تكنولوجيا متقدِّمة، يهدف ـ إنِ استطعتُ القول ـ إلى تجاوُزِ مشاعر الشَّبع لدَيْنا وجعلِنا نأكلُ أكثر فأكثر. حتَّى أنَّه ـ وللأسف ـ تمَّ تصميمُها لِتؤكلَ في أيِّ مكانٍ، بل ويتمُّ تصنيعها باستخدام مزيجٍ من النَّكهات والملمس الَّذي لا تستطيعُ وظائفنا العصبيَّة الأساسيَّة الحصول على ما يكفي مِنْه: كالملح والدّهون والوجَبات المقرمشة، وهذا كُلُّه من أجْلِ أن نستسيغَه ولكن بإفراطٍ!
لذلك، فإنَّ إحدى الطُّرق لجعْلِ النَّاس يشترون المزيد من الوجَبات هو تحسين مذاقه. والهدف الآخر هو توسيع الأساس المنطقي لتناوُلِ الطَّعام في المقام الأوَّل. وأقصدُ هُنَا تحويله إلى شيء نفعلُه من أجْلِ المُتعة، وليس فقط لُقمة تكفينا الجوع... فهل هذا المكان الَّذي نحن فيه الآن؟
ختامًا، ولأهميَّة الموضوع، نأمُل من المؤسَّسات والجهات المعنيَّة النَّظر فيه، وزيادة التَّوعية المُجتمعيَّة لدرءِ الأمراض المرتبطة بهذه الوجَبات، خصوصًا وأنَّه بفضلِ التَّطوُّر في التَّصنيع والتَّعبئة، أضحى صنع نكهات جديدة من الوجَبات الخفيفة أرخصَ من أيِّ وقتٍ مضَى، بل وبفضلِ وسائل التَّواصُل الاجتماعي، لم يكُنِ الأمْرُ مربحًا أكثر من أيِّ وقتٍ مضَى؟! فهل صدقًا ستُصبح هذه الوجَبات الخفيفة (السَّريعة) متأصِّلةً في حياة أبنائنا وأجيالِنا القادمة كما هو حاصل الآن في الغرب؟ بلا شكٍّ ومن منظورٍ صحِّي واجتماعي، نحن لا نريدها في أدمغتنا، وقوائم طعامنا، وإيقاع أيَّامنا!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي