..... ثم تأتي الفاء التي تفيد السرعة:(فأتبعه..)، وكأننا نرى رَمْقَ الشيطان له، وانتظار بُعْدِهِ عن ربه، ومولاه؛ ليتفرد به، فالشيطانُ ذكيٌّ، نَهَّازٌ للفرض، فبمجرد أن انسلخ كان الشيطانُ أمامه يسوقُهُ لاعبا به كالكرة، أخذه، وعبث به بعيدًا، وأتبعه، وظل يُغوِيهِ، والفعلُ يبيِّن ذكاء الشيطان في تتبع فريسته:(فأتبعه)، والإملاء لها حتى تقع في شباكه، والانتظار عليها حتى يدخل في حباله، ويُحْكِمَ الإطباق عليه، وتعريف الشيطان (بأل) يوحي بتمكُّنه، فليس شيطانًا صغيرًا، وإنما هو الشيطانُ المعرَّفُ المعروفُ الذي لا يفلتُ منه إلا الذين أخلصهم الله له، وأبعدهم بذاته العلية عنه، وحصَّنهم منه، وتقديم المفعول هنا، وهو الضمير المتصل بالفعل:(أَتْبَعَ) في قوله تعالى:(فأتبعه الشيطانُ) يبيِّن أنه مقصودٌ منظور إليه، مُتَرَقَّبُ الخُطا، سيقع لا محالة في شرك الشيطان، وأخَّر الفاعل لحصره، وللتشويق إلى معرفته.
فالتقديم قد حقَّق، وبيَّنَ اهتمامَ الشيطان به، وعَدَمَ إنزالِ نظرِهِ عنه، كالأسد يرتقب في صمت فريسته، ويتخفَّى منها حتى إذا وجد فرصةً سانحةً لم يتركْها، وأحسن انقضاضَه عليها، وتحكَّم في مفاصلها حتى رضختْ له، واستكانتْ، وصَمَتَتْ، ومَضَتْ معه يجرُّها، ولا حراكَ لها، هكذا وضَّحَتْ أحرف الأفعال: في (انسلخ ـ فأتبعه)، (أي: تسلّط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزَّه إلى المعاصي أزًّا، وهَزَهُ هَزًّا، ومَزَّه مَزًّا، ودفعه إليها، ووكزه وكزًا)، وجاء في بعض التفاسير ما مُوجَزُهُ الآتي:(أي: اقرأ على قومك، يا محمد تلك القصة؛ ليعتبروا، ويتعظوا بها عن خبر ذلك الإنسان الذي آتيناه آياتنا، بأن علَّمناه إياها، وفهَّمناه مرامِيَها، فانسلخ من تلك الآيات انسلاخَ الجلدِ من الشاة، أو انسلاخ الحَيَّةِ من جلدها، والمراد أنه خرج منه بالكُلِّيَّة بأن كفر بها، ونبذها وراءَ ظهره، ولم ينتفعْ بما اشتملتْ عليه من عظات، وإرشادات، وما ارعوى خوفًا، ولا انزوى خشية من ربه الذي علَّمه، وبصَّره، وأدَّبَهُ، وحقيقةُ السَّلْخِ هي كَشْطُ الجلد، وإزالتُه بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئًا على أتمِّ وجهٍ:(انسلخ منه)، وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة، حيث بَيَّنَتِ الحروفُ سرعةَ التملصِ منه، ويسرَ خَلْعِهِ، والإلقاء به، ومعنى قوله:(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)، أي: فَلَحِقَهُ الشيطانُ، وأدركه، فصار هذا الإنسان ـ بسبب ذلك ـ من زمرة الضالين، الراسخين في الغواية، مع أنه قبل ذلك كان من المهتدين، كما أن في التعبير بقوله:(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) مبالغةً في ذمِّ هذا الإنسان، وتحقيره، فقد جُعِلَ كأنه إمامٌ للشيطان، والشيطانُ يتبعه، فهو على حدِّ قول الشاعر:(وَكَانَ فَتًى من جُنْدِ إبليسَ فَارْتَقَى ..بِهِ الحَالُ حَتَّى صَارَ إبليسُ مِنْ جُنْدِهِ(، قال العلامة الجَمَلُ:(أتبعه)، فيه وجهان، أحدهما: أنه مُتَعَدٍّ لواحدٍ بمعنى أدركه، ولحقه، وهو مبالغة في حقه، حيث جُعِلَ إمامًا للشيطان، وثانيهما: أن يكون متعدّيًا لمفعولين اثنين؛ لأنه منقولٌ بالهمزة من الفعل الثلاثي:(تبع)، والفعل (تبع) متعدٍّ لمفعول واحد، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: فأتبعه الشيطانُ خطواتِه، أي: جعله تابعًا لها، فهما معنيان، مبنيان على قضية التعدي واللزوم، وارتباطهما بالدلالة.
وقوله:(فكان من الغاوين) الفاء هنا تفيد سرعة انزلاقه، والعياذ بالله، والفعل (كان) يرشِّح ذلك، ويقوِّيه، ويؤكِّده، ويفيد بأن تعلُّمه العلمَ لم يُؤَثِّرْ فيه، ولم يجعله راسخَ القدم، فسرعان ما انسلخ، وفَرَّ، ثم كان من كبار الفسدة، والمُغوين الذين استعملوا علمَهم في الصد عن سبيل الله، وأكلوا بعلمهم، وتقمَّموا موائد الكبار؛ استغلالًا لفهمهم، و(الغاوين): اسم فاعل، وهو معرف بأل، أيْ يحمل نيةَ الفعل، ويقصده، ويفهم طبيعتَه، ويدرك ماهيتَه، ويفهم مواضعَ قَدَمَيْهِ، فلا حجة له، ولا وزن عند الله لمثله، وهو بذلك يكون من القاصدين قصدَا للبعد عن الله، وتنكُّب طريق الحق.
ثم انظر إلى حروف اللثة، وكيف بَيًّنَتْ خصائصَ ذلك العالم الذي لم يعملْ بعلمه، وَرَسَمَتْ صورته القبيحة، وهيئته المفضوحة، وسلوكياته المرذولة، وأعماله المنكورة، والمركولة، وعرَّتْه أمام نفسه، وأمام الناس، فصار مسخةً، وأضحوكةً.
وكلمة:(الغاوين) عندما تستمع إليها بِحِسِّ، وشعورِ قلبك، وتدركها بكاملِ وعيك، وتامِّ معايشتك، تجدُ فيها سرعةَ الانطلاقِ، والوصولِ إلى نهاية بئر المعصية الذي يمتلئ عَطَنًا، ويَغَصُّ نتنًا، ويفوحُ نجاسةً، ويتَّسع خِسةً، وصغارًا، وينتشر عارًا، وشَنَارًا، فيبين سرعة انزلاقه، وسهولة بعده، فكأنه ينحدر انحدارًا سريعًا.
وقوله:(ولو شئنا لرفعناه بها) جملة شرطية تأتي كناية عن كمال القدرة، وتمام الهيمنة، وسعة المقدرة، واقتدار المشيئة، وجملة:(لرفعناه بها) كناية أيضًا عن الاستطاعة الشاملة، ولكنها في الوقتِ نفسِه كنايةٌ عن عمق الأسى، والحزن الذي عليه هذا التعيس، الذي كان بإمكانه أن يرفَعَهُ الله لو صدق، ومَنْ يرفعْه الله فلا خافضَ له، فهو كناية عن النكوص المُزْرِي، والتراجعِ المُبْكِي، وتَرْكِ عطاء الله الوافي الكافي عن محضِ مزاج، وكامل وعي إلى متاع الدنيا الدنيء، المجافي.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية