الاثنين 09 سبتمبر 2024 م - 5 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «الحروف اللثوية: الذال والثاء والظاء، ومعها اللام من الأحرف الذلقية» «2»

الأربعاء - 28 أغسطس 2024 05:45 م
30

.. فحاصلُ معنى هذا المثل: أن المكذبين بآياتِ اللهِ المنزلةِ على رسوله مع إيضاحها بالحجج، والدلائل، كالعالم الذي حُرِمَ ثمرةَ الانتفاعِ بعلمه؛ لأن كلاًّ منهما لم ينظر في الآيات (نظرَ تأملٍ، واعتبار، وإخلاص، ولا تفكَّر بصورة تحجبه عن المنكرات).

بدأتِ الآيةُ بفعل الأمر:(اتل)، وهو كناية عن استدامة التلاوة، والقراءة بصوت مسموع، هادئ، تأخذ فيه الحروفُ حقَّها، ومُستَحَقَّهَا (كما يقول أهل التجويد)، وتبيِّن معانيَها، وتتضح مع التلاوة الهادئة مقاصدُها، ومرامِيها، والفاعل هو الرسول الكريم، أي مَنْ يتلو كتابَ ربه حقَّ التلاوة، ويخرج من فمه الطاهر كاملَ المعنى، تامَّ الدلالة، مفسَّرًا بالتفسير العملي، والسلوكي، والتربوي الذي تضمن كلَّ سمات الصدق، وكلَّ معانِي الإخلاصِ لله، (أيْ: اتلُ أنت يا رسول الله)، وشبه الجملة:(عليهم) يعني: أن يكون النصح قد عَمَّهُمْ، وشملهم، وغطَّاهم، وفهموه حقَّ الفهم، كأنه علاهم، وغطَّاهم، فالحرف:(على) يفيد الاستعلاء، والتمكن، و(النبأ) يختلف بلا شك في معناه عن (الخبر)، فالنبأ له سماتُه، وخصائصُه، فهو خبرٌ لم يعرفه أحدٌ من الناسِ من قبلُ، وهو خبرٌ صادقٌ، لا يوجَد فيه أيُّ موضعٍ للشكِّ، وقد جاءت كلمة (نبأ) في القرآن الكريم في عدة مواضع بهذا المعنى، حيث جاءت في سورة النبأ، قال تعالى:(عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)، وذلك يؤكِّد أن النبأ شيءٌ عظيمٌ، أو خبرٌ كبيرٌ، وصادق، والنبأ كذلك يستخدم مع الأشياء التي حَدَثَتْ، وانتهتْ في الماضي، ولم يعرفْها الكثيرُ من الناس، فقد تَمَّ ذكرُها في الكثير من المواضع القرآنية التي يُذكَر فيها الله قصصُ الأنبياء السابقين، فعلى سبيل المثال يقول الله تعالى:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، ويقول عزوجل:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ)، وكذلك يقول سبحانه في سورة النمل:(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).

فالنبأ إذن له مَعْنًى عظيمٌ، فكلُّ آياتِ القرآن الكريم تدل أن النبأ هو أعظمُ، وأهمُّ بكثير من الخبر؛ ثَمَّ جاءت هنا لفظة:(نبأ) هنا؛ لخطورتها، وأهميتها في مسيرة الكون كله، ولم يكن خبرا محتملا، فهو يحتمل الصواب، وغير الصواب، بل هو (نبأ).

وأما كلمة (الخبر) فَتُستخدَمُ عندما يكون هناك احتماليةٌ في أن يعرف المخبَر هذا الخبر من قبلُ، أم لم يكن يعرف، وإذا كان لا يعلمه فربما كان هو غيرَ متأكد منه، أو سمع عنه من قبلُ؛ لذلك يقال:(أخبرني عن نفسي)، ولا يقال:(نَبِّئْنِي عن نفسي) لأن الشيء الذي سيخبره به هو يعرفه بالفعل، فلكلٍّ منهما سياقه الخاص، وسماته.

ونلاحظ هنا أن القرآن الكريم لم يوردْ اسمَ هذا الرجل محل الذم، الموصوف بكل تلك الصفات، حيث اكتفى بالصفة التي تدل على أنه رجلٌ، لكنْ، لم يذكره، ربما احتقارًا واستصغارًا لشأنه، وسوء سلوكه، وأنه لا يكاد عند الله يُرَى، وتمثَّل عدم الرضا هنا في إخفائه، واستتاره، أو حذفه؛ لأن الأصل:(اتل نبأ الرجل، أو العالم، أو الشخص، أو الإنسان الذي آتيناه آياتنا..)، فعارضُ الحذفِ هنا أدَّى دلالةً معنويةً، وقيمةً تربويةً، تجعل القارئَ يخشى على نفسه أن يكون في موقفه، وأن يُغَضَّ الطرفُ عنه، وأن يُحْذَفَ وصفُه، ويعبَّر عنه مستترًا، كأنه غيرُ موجود، ومعلوم من خلال كتب التفسير أنه هو بلعوم بن باعوراء، من علماء بني إسرائيل كما ورد في كتب التفسير، عن علي بن أبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ أنه كان من الكنعانيين، وكان من مدينة الجبارين، وقصته معلومة، برواياتها، وأحداثها كلها.

وجملة:(آتيناه آياتنا) بمعنى: علمناه كتابَ اللّه، فصار العالمَ الكبيرَ، والحبرَ النحريرَ. والجملة هنا كناية عن عظمة عطاء الله الكامل، وتبصيره التام، وسعة نِعَمِهِ على هذا الرجل، والضمير (نا) في كلٍّ من (آتينَاه ـ وآياتِنا) يعود على الله، وفيه شدةُ عتابٍ، وسعةُ إنكارٍ، وتفوح منه رائحةُ عدم الرضا، والضميرُ الهاء ورد للتخصيص:(آتيناهُ)، أي: أن الله أعطاه وَحْدَهُ هذا الفضل، وأنعم عليه بذلك العطاء، فلم يحسن استغلاله، وأغفل جماله، وجلاله، وضيَّع نفسَه ، وحياته، وعمره بالتنكر لعطاءات الله، والإدبار عن نعمه، وهدايته، ورضاه، وراح وراء السراب، والضياع، والهلاك.

فانسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإنَّ العلمَ بذلك يجعلُ صاحبَه متصفًا بمكارمِ الأخلاق، ومحاسنِ الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، فترك هذا الرجلُ كتابَ اللّهِ وراءَ ظهره، ونَبَذَ الأخلاقَ التي يأمر بها الكتابُ، وخلعها كما يخلع اللباس، والفعل (انسلخ) كناية عن الترك الكامل، والخلع التام، والتبرؤ الشامل، كما أن الفعل بتلك الأصوات يبيِّن سرعةَ الانسلاخِ، والعجلةَ، وعدمَ التريث، وكمالَ الابتعاد، وكأنَّ العلم لم ينزلْ إليه، ولم يشملْه، وكأنه عَدْوَى، ومرضٌ يجب الابتعادُ عنه، وعدمُ الاقتراب منه، وسرعة التملُّص، والتخلص منه، كالمرض، والعدوى، يَفِرُّ المرء منها خائفًا من الوقوع فيها، والدخول في أَتُونِهَا، وشبْه الجملة:(منها) كناية عن افتضاح أمره، وكأنه يخلع عطاءَ الله، ناظرًا بعينٍ يسترق الخلع؛ حتى لا يراه أحد، ولا يريد من أحد أن يطلع عليه عند انسلاخه منها، والحروف تبيِّن استراقَ السَّلْخِ، وسرعة خلعه لجلده، وكأنه جَرَبٌ يجب التبرؤُ منه، والتخلصُ من عدواه، وهو منظر، مَقِيتٌ، محزنٌ، مُبْكٌ لعالم يتملص من علمه الربانيِّ.

---

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية