الاثنين 09 سبتمبر 2024 م - 5 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «الحروف اللثوية: الذال والثاء والظاء، ومعها اللام من الأحرف الذلقية» «1»

الأربعاء - 21 أغسطس 2024 05:01 م
30

من أجمل ما ستعرف في هذا المقال دَوْرُ تلك الحروفِ التي تُسَمَّى عند أهل التجويد، أو أهل الأداء الدقيقِ لتلاوة القرآن الكريم بالحروف اللِّثَوِيَّةِ، وستقف على جليل دورها في توضيح المعنى الذي سِيقَتْ له، ونهضتها للكشف عن جمال الدلالة القرآنية، وارتباط السياق بتلك الحروف بصورة مباشرة، وأنها تكشف كشفًا واضحًا عن سُمُوِّ المعنى، وعُمق الفهم، وكمال تناغم الصوت، مع تمام ما جاء له، وما أتى لبيانه، وتوضيحه في محله من الآيات، ولِمَ ورد في هذا السياق بذلك الترتيب؟.

وبدءًا فالحروف اللثوية هي تلك الحروف التي يخرج معها اللسانُ من الشفتين، وطرف اللسان مع الثنايا العليا، وقد أَسْمَوْهَا الحروفَ اللثوية؛ لكونها تُنسَبُ إلى اللثة، وأنها قريبةٌ منها، فقالوا في تعريفها:(سُمِّيَتِ الحروفُ اللثويةُ بهذا الاسم نسبة إلى لثة الأسنان، وإلى قربها منها، وليس لأنها تخرج من اَللَّثَة)، واللَّثَةُ هي ما حول الأسنان من لحم، وجمعها: لِثَاتٌ، ولِثًى، ولِثِيٌ ،هي مَنْبَتُ اللسان، أو هو اللحم الذي تركب فيه الأسنان»، فاللثة لا تُعَدُّ مخرجًا، وهي تخرج من طرف اللسان مع أطراف الثنايا العليا، والحروف اللثوية في اللغة عَدَدُهَا ثلاثة هي: الذال، والثاء، والظاء، ومبدؤها اللثة، وقد ذكر العلماءُ صفة كلٍّ من الثاء، والذال، والظاء، فقالوا:(صفة حرف الثاء أنه من الحروف المهموسة، والحرفُ المهموسُ هو حرفٌ جَرَى معه النَّفَسُ عند النطق به؛ لضعفه، وضعفِ الاعتماد عليه، ومخرجُه مما بين طرف اللسان، وأطراف الثنايا العليا)، وأما صفة حرف الذال فهو:(من الحروف المجهورة، أيْ أقوى من المهموسة، والحرفُ المجهورُ هو حرفٌ قويٌّ مَنَعَ النّفَسَ أن يجريَ عند النطق به؛ لقوّته، وقوة الاعتماد عليه، ومَخْرَجُهُ مُشَابِهٌ لمخرج الثاء، وهو مما بين طرف اللسان، وأطراف الثنايا العليا)، وأما صفة حرف الظاء فهو:(من حروف الإطباق، والحرف المُطبِق هو حرف انبطق مع الريح إلى الحنك عند النطق به، وتتفاوتُ الحروفُ المطبقة بالقوة، والضعف، ويعتبر الظاء من الحروف الضعيفة؛ لرخاوته، وانحرافه إلى طرف اللسان، مع أصول الثنايا العليا، ومخرجُهُ مُشَابِهٌ لمخرجَيِ الثاء، والذال، وهو مما بين طرف اللسان، وأطراف الثنايا العليا).

وأما حرف اللام، فلقبه أنه من الحروف الذَّلْقِية، وهي: اللام والنون، والراء (ل، ن، ر)، ولقِّبَتْ بذلك نسبةً إلى ذَلْقِ اللسانِ، أيْ طرفه، ولخفتها، وسرعة النطق بها، ومخرجُ اللام هو أدنى حافتي اللسان (أو إحداهما، واليمنى أيسر) مع ما يحاذيه من لَثَةِ الأسنان العليا، وصفتُه:(الجهرُ، والبينيةُ، والاستفالُ، والانفتاحُ، والإذلاقُ، الانحرافُ) (جمال بن إبراهيم القرش: دراسة المخارج والصفات، صفحة 80. بتصرّف، والدكتور أبو إسماعيل إبراهيم بن محمد ابن كشيدان، الدلائل الواضحات في بيان مخارج الحروف والصفات، صفحة 31، وابن الجزري، التمهيد في علم التجويد، صفحة 72 بتصرّف، وصفحة 98، والدكتور أيمن سويد: الدرر المنيرات في مخارج الحروف والصفات، صفحة 2).

وبعد أن عرفنا صفاتِ الأحرف اللثوية، ومخارجَها، ومعها حرف اللام، وأنه من الأحرف الذلقية، ندور حول قوله تعالى:(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف 175 ـ 176).

في هاتين الآيتين حديثٌ عَمَّنْ آتاه الله العلم، ووضَّح له الآياتِ، وعلَّمه، وبصَّره، لكنه سرعانَ ما انسلخ منها، وتفلَّت من تكاليفها، وتَرَكَ ما علَّمَه الله إياه، وهنا رَمَقَهُ الشيطان، فتبعه، وما أمهله، وظل يُغْوِيه حتى أبعده عن ربه، ولمَّا علمَ اللهُ منه وقد خلقه، ويعرف خاتمته أنه أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، وترك طريق الله لم يرفعْه، وتركه في طينِ الأرض، وَسَوَادِهَا، يتنقلُ من معصية إلى معصية، وضرب الله له، وبه مثلا يناسبُ وصفَه، ويشخِّص حَالَتَهُ، فهو مثل الكلب، دائمُ اللهث، سواء حَمَلْتَ عليه، وضربْتَه، فجرى، ولسانه خارج فمِه، أم تركتَه، ولم تحملْ عليه، فهو يلهثُ، فشأنه اللهَثُ دائمًا : حملتَ عليه أم لم تحملْ عليه، ثم عَمَّمَها اللهُ تعالى، وجعلها مثلا لكلِّ مَنْ يكذِّب بآيات الله، فيأخذه الله أخذًا شديدًا، ويجعله ألعوبةً في يد الشيطانِ، يهزأ به كيفما شاء، وأنَّى شاء، وتلك القصصُ تُضْرَبُ لنا في كتابِ اللهِ؛ لنتذكَّرَ، ونتعظَ، ونعملَ بما يوجبه النصحُ، ويتطلبه الإرشادُ، وتوجبه المروءةُ، وكمالُ الأخلاقِ، وتكاليفُ القرآن الكريم، وأبجدياتُ العقيدةِ الإسلاميةِ.

لكنْ، ما عمل الحروف اللثوية هنا؟، وكيف كشفت لنا عن صورة العالم الذي يأكل بعلمه، ويتكسب بفكره؟، فهو يتقمم الموائدَ كلَّها، ويأكل فتاتَ الطعامِ، وسواقطَ البيوتِ، ويفتي بالحِلِّ هنا، وبالحرمة هناك لحكم واحد، وفقَ ما يتطلبه سَيِّدُهُ، ومن هو ربيبُ نعمته، ومَنْ يمجِّده في حضوره، وغيبته، وإنْ كان لا وزنَ له عند الله، ولا قيمةَ له عند ربه، ومَنْ لا يزن جناحَ بعوضةٍ عند مولاهُ، وخالقِه، وبارئِه؟!.

قال صاحبُ (المنار): هذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله محمد ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو مثلُ مَنْ آتاه اللهُ آياتِهِ، فكان عالمًا بها، حافظًا لقواعدها، وأحكامها، قادرًا على بيانها، والجدل بها، ولكنه لم يُؤْتَ العملَ مع العلم، بل كان عملُه مخالفًا تمامَ المخالفة لعلمه، فَسُلِبَ هذه الآياتِ؛ لأن العلمَ الذي لا يُعمَل به لا يلبث أن يزولَ، فأشبه الحيةَ التي تنسلخُ من جلدها، وتخرجُ منه، وتتركُه على الأرض، أو كان في التباين بين علمه، وعمله كالمنسلخ من العلم، التارك له، كالثوبِ الخَلِقِ، يلقيه صاحبُه، وكالثعبانِ يتجرد من جِلده، حتى لا تبقى له به صلةٌ على حد قول الشاعر:

خُلِقُوا، وما خُلِقُوا لمكرمة

فكأنهم خُلِقُوا وما خُلِقُوا

رُزِقُوا، وما رُزِقُوا سَمَاحَ يدٍ

فكأنهم رُزِقُوا وما رُزِقُوا

---

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية