توقف بنا للحديث فيما سبق عن كيفية الوصول إلى الإحسان، وذلك بعدة أمور تبدأ من النية الصادقة والعمل القلبي إلى السلوك الحسن والعمل الصالح، وقد يطرأ على الذهن لبس بين معنيين بين معنى الإحسان وبين معنى الإنعام، والحقيقة إن هناك فرق كبير بينهما يقول صاحب (نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم 2/ 68): (والفرق بين الإحسان والإنعام أنّ الإحسان يكون لنفس الإنسان ولغيره. تقول: أحسنت إلى نفسي، والإنعام لا يكون إلّا لغيره. وقال الفيروز اباديّ: الإحسان يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير. تقول: أحسن إلى فلان، والثّاني إحسان في فعله. وذلك إذا علم علمًا حسنًا، أو عمل عملًا حسنًا. والإحسان أعمّ من الإنعام، وقال: الإحسان من أفضل منازل العبوديّة؛ لأنّه لبّ الإيمان وروحه وكماله. وجميع المنازل منطوية فيها)، (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) (الرحمن ـ ٦٠)، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم):(الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه»، والإحسان يكون في القصد بتنقيته من شوائب الحظوظ، وتقويته بعزم لا يصحبه فتور، وبتصفيته من الأكدار الدّالّة على كدر قصده. ويكون الإحسان في الأحوال بمراعاتها وصونها غيرة عليها أن تحوّل، الإحسان ـ إذن ـ وفي معنى عامّ: المعاملة بالحسنى ممّن لا يلزمه إلى من هو أهل لها. ذلك أنّ الحسن يعني: ما كان محبوبًا عند المعامل به، وليس لازمًا لفاعله)، وغذا ما لازم صاحب الإحسان عليه أصبح محسنًا بطبيعته، ميالا إليه بفطرته، فارتقى إلى درجات الإحسان درجة بعد درجة، وقد اجتهد العلماء في توضيح وبيان درجات الإحسان، يقول ابن قيّم الجوزيّة ما خلاصته: الإحسان على ثلاث درجات، الدّرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما وإبرامه عزما وتصفيته حالًا، والدّرجة الثّانية: الإحسان في الأحوال وهو أن تراعيها غيرة، وتسترها تظرّفا، وتصحّحها تحقيقا، والمراد بمراعاتها: حفظها وصونها غيرة عليها أن تحوّل فإنّها تمرّ مرّ السّحاب، وتكون المراعاة أيضا بدوام الوفاء وتجنّب الجفاء، والدّرجة الثّالثة: الإحسان في الوقت وهو ألّا تزايل المشاهدة أبدًا، ولا تخلط بهمّتك أحدًا، والمعنى في ذلك أن تتعلّق همّتك بالحقّ وحده، ولا تعلق همّتك بأحد غيره، وقد يأتي الإحسان على درجات متعدّدة، وكلّها ينضوي تحت المفهوم الشّامل السّابق، وأعلاه: ما كان في جانب الله تعالى، ممّا فسّره النّبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) بقوله في الحديث المشهور: (الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)، ودونه التّقرّب إلى الله تعالى بالنّوافل، وتأتي بعد ذلك مراتب أخرى للإحسان سواء في القصد والنّيّة، أو في الفعل، والإحسان في النّيّة يعدّ أمرا مهمّا، إذ لابدّ أن تنقّى تنقية سليمة وافرة، أمّا الإحسان في الفعل أي في المعاملة مع الخلق فيكون فيما زاد على الواجب شرعا، ويدخل فيه جميع الأقوال والأفعال ومع سائر أصناف الخلائق إلّا ما حرّم الإحسان إليه بحكم الشّرع. ومن أدنى مراتب الإحسان، ما ورد في لصّحيحين:(أنّ امرأة بغيّا رأت كلبًا يلهث من العطش، يأكل الثّرى، فنزعت خفّها وأدلته في بئر، ونزعت فسقته فغفر الله لها)، فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع وآداب المعاشرة كلّها في المعاملة والصّحبة، والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان أيضًا لقوله تعالى:( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران ـ ١٣٤)، ومن تأمّل الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة الواردة في الإحسان يتّضح له بجلاء أنّ الإحسان يشكّل مع العدل، جوهر العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنّ دائرة هذا الإحسان تتّسع لتشمل النّفس والأسرة والأقارب ثمّ المجتمع والإنسانيّة عامّة فالإحسان إلى النّفس وهي الدّائرة الأولى في مجموعة الدّوائر الّتي يدور الإحسان في فلكها تتضمّن إخلاص العبادة وكمال الطّاعة، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك دائرة أكثر شمولًا من العلاقة السّابقة، ألا وهي دائرة الحياة بكلّ ما فيها من نبات أو حيوان أو جماد وإلى ذلك يشير قول الله تعالى :(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف ـ ٥٦) (نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم 2/ 68، مرجع سابق)، وقبل أن أترككم أيها الأحباب لنلتقي في المرة القادمة إن شاء الله تعالى أريد أن فكر سويًّا حتى في إجابة هذا السؤال، ألا وهو: ما الذي يعود على المجتمع من فضيل الإحسان؟!.
محمود عدلي الشريف