الاثنين 09 سبتمبر 2024 م - 5 ربيع الأول 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «حرف الراء نموذجا» «2»

الأربعاء - 14 أغسطس 2024 05:34 م
20


ـ النموذج الثاني: قوله تعالى:(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة ـ 8).

يأتي حديثُ القرآن الكريم هنا عن الذين هادُوا، وعن زَعْمِهِمْ أنهم المقربون إلى االله، وأنهم هم أولياؤه من دون الناس، وأنهم المقدَّمون عند الله، فطلب إليهم ـ إن كانوا صادقين ـ أن يتمنوا الموت، ويرجوه فقط حتى يحصدهم من فورهم ـ كما في الحديث الشريف ـ لكنهم لكونهم غير صادقين فلن يتمنوا الموت أبدًا، لأنهم لو تمنوه لماتوا من فورهم، ولم يُمْهَلُوا أبدًا، وهم ـ كما عبَّر القرآن الكريم عنهم، وكشفهم أمم أنفسهم في قوله تعالى:(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة 6 ـ 8).

فجاءت الآية الأخيرة، وهي الآية الثامنة؛ لتبين لهم حقيقةً مُرَّةً، وهي أن الموتَ الذي يفرون منه، لا شك ملاقيهم، وأنهم سوف يلقون الموتَ إنْ آجلًا، أو عاجلًا، ولا فرارَ من الموتِ الذي كتبه الله على عباده جميعًا، قال الشاعر:(.. ومَنْ كان في حبل المنية يَنْقَدِ)، ولكنه أتى هنا بفعل هو أدخل في بيان المعنى الحقيقي للفرار، ودلالة الهرب، ونتيجة الوجل، وببين آثار الهلع، وهو الفعل:(تفرون)، فهذا الفعل ورد بالمضارع الذي يفيد الاستمرار، وتواصل الفرار، وهو قد تضمَّن الفاء، والراء على ما شرحتُ أعلاه من كونِ الفاءِ حرفًا شفهيًّا، يُخرِج الهواءُ كلَّه معه من الشفتين، وخصوصًا هواءَ الزفير بحرارته العالية التي تَعْنِي تتابع النَّفَس، والزَّفَرَات من جَرَّاء الجري، والفرار، والراء حرف تكرار، أيْ تواصل الجَرْيِ، والسرعة التي معها لا نرى منها القدمين، وهما يرتفعان، وينخفضان، والراء مع تخيُّل اللسانِ فيها، فكلها تكشف عن ماهية الفرار، وشدَّته، وتتابُعه، وتواصُله، ثم إنَّ واو الجماعة في:(تفرون) تبيِّن أنها سمةٌ في كل البشر، وجميع الخلق، في أنهم يفرون فرارًا عجيبًا، ولكنَّ الموت سيلقاهم حتمًا، وكأنه ينتظرهم في نهاية الطريق، فهم في فرارهم وجريهم، إنما يذهبون إليه، وإلى حتفهم، وحقيقة أمرهم أن الناس جميعًا يموتون على اختلافِ نوعِ، وطريقةِ الموت، وقسوتِه، أو خفتِه، فالموتُ موعدُ البشر كلهم، وهو لاقيهم بلا شك، ثم نرد إلى ربنا عالم الغيب، والشهادة، فينبئنا بما كنا نعمل، ونأتي، ونذر، ونقول ونفعل، وكله مسجل علينا، لا يضيع، ولا ينسى، والذكي من يتعظ، ويعمل لذلك اليوم.

ـ النموذج الثالث: قوله تعالى:(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (الاحزاب 15 ـ 16).

تتحدث الآيات هنا عن حُكْمِ التولِّي يومَ الزحف، وخطورةِ فاعِلِهِ، وأن عهدَ الله للمسلم، ومساءلتَه عنه واردةٌ، واردةٌ، وهو مسؤولٌ بين يدي مولاه، ولكنه في النهاية لا ينفع حذرٌ من قَدَرٍ، وأنه إذا كان مقدرًا للمرء أن يموتَ في المعركة، فلا فائدة من الفرار، لكنه في النهاية لا يتمتع المرءُ بعد فراره إلا قليلًا، ويعودُ إلى ربه، فيحاسبُه على فراره، وقد كان عاهدَ اللهَ ألا يفرَّ من معركةٍ؛ لأن الشهيد لا أحدَ يعدله في درجته، وفي فضل الله عليه، وأن روح الشهيد تخرج بكلِّ يسرٍ، وسهولةٍ كَشَكَّةٍ يسيرة بإبرةٍ، لا تكاد يشعر بها صاحبُها، ولكنْ، يكون له بعدها جنةٌ عرضُها السمواتُ، والأرضُ، أعدَّها الله لمثله من المتقين، والفعل: (فررتم) هنا يرسم صورةً للناكص على وجهه، الهالعِ، الخائف، وكأنه يجري كأسرعِ وسيلةِ نقلٍ، لا تُرَى عجلاتُها من شدة سرعتها، وهو كناية عن الهلع غير المعتاد، والخوف الشديد، الذي انتاب هذا الجبانَ، فجعله يَفِرُّ ، ولا يلوي على شيء، فالفعل (فررتم) بفائه، ورائه، وفكِّ إدغامِه وجوبًا قد رَسَمَ صورةَ إنسانٍ باهتِ الوجهِ شاحبِ الهيئةِ، لاهثٍ أصفرِ الوجهِ، يتلفت يمنةً، ويسرةً، كأنما حضره الموتُ من كلِّ مكان، كلُّ تلك الدلالة حققتْها الراءُ التي فُكَّ إدغامُها وجوبًا، فأرتْنا سرعة القدمين، ولهث اللسان، وجفاف الحلق، وشدة نبضات القلب.

ـ النموذج الرابع: قوله تعالى:(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات 50 ـ 51).

هو في الآية الكريمة نصحٌ، وإرشادٌ من رب العباد، بالتوجه إلى الله عزَّ وجل، وإلى حُسْنِ عبادته، والسعي إلى مرضاته، وأن يجعل الإنسان التوحيدَ الخالصَ، وصدقَ الطاعة، وعدمَ الشرك أساسًا له في حياته، ومنطلقًا له في عباداته، وهنا ترى تعاقب فاءين، الأولى الفاء العاطفة، أو التفريعية، أو الفصيحة، والثانية: فاء الفعل التي هي فاء الميزان، فأصل الفعل هو:(فَرَرَ) مضعف ثلاثي، وعندما تتملَّى نُطْقَه تجدُ أن الراء في فمك، وعلى لسانك لا تكاد تتوقف؛ لأنها حرفُ تكرارٍ، مهموسٌ، رخوٌ، يخرج من بين الشفة العليا، وأطراف الثنايا العليا، وتلك الفاء لها معانٍ كثيرةٌ بحسب سياقاتها، إلا أنها هنا تفيدُ السرعةَ أيضًا مع الراء المسندة إلى واو الجماعة التي تعني أن النصح، والعظة، والإرشاد للناس جميعًا؛ وتحثهم على العمل، والاستعداد لهذا اليوم الذي تَشيبُ من هَوْلِهِ الولدانُ، وتذوبُ من خطورته ذوائبُ الإنسان، والقلبُ منه، والعينانُ، وجميع أجزاء الأبدان، قال تعالى:(وإن يومًا عند ربك كألف سنةٍ مما تعدون)، وقال ـ جلَّ شأنه:(في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، هذا الفعل: (ففروا) وَضَعَنَا في صورة المؤمن الحصيف الذي فَهِمَ عن الله، وأدركَ رسالتَه، وعرفَ وظيفتَه، وفَهِمَ مهمَّته، وخطورةَ اليومِ الآخِرِ، فهو يفر فرارًا سريعًا، وعاجلًا، ومتواصلًا، ووجهته في ذلك هي ربُّه، ومولاه، وإلهُهُ، فما أجله من فرار!، وما أرقه من هرب!، حينما تسارع إلى ربك، كما قال سبحانه:(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)، فالفرار هو نِعْمَ الفرار، والهربُ من جحيم الدنيا إلى جنة الله، وذكْره، وشُكره، واستنزال رحمته يجب أن يكون فِرارًا، وهَرَبًا متواصلًا، أزليًّا، سرمديًّا، مستمرًّا، لا كسلَ فيه، ولا مَلالَ، ولا كَلالَ، بل فرارٌ يعقبه فرارٌ، يتبعه كذلك فرارٌ؛ تحقيقًا لدلالة الراء، والفاء، ونزولًا على مطلوب الله ـ جل في علاه ـ وتقدس في أرضه، وسماه.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية