السبت 27 يوليو 2024 م - 21 محرم 1446 هـ

رجب الأصم فـي حياة النبي الأعظم «1»

الأربعاء - 17 يناير 2024 05:30 م
20

إخوة الإيمان.. إن رسولنا الكريم (عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم) دائمًا يقوم مقام المعلم لنا في كل جوانب الحياة، فهو (صلى الله عليه وسلم) المعلم لنا في العبادات والمعاملات وكريم الصفات، هو المعلم لنا في حسن التعامل مع كل متحرك وساكن وفي البقاع والأماكن، هو المعلم لنا في استغلال الأوقات والأزمان، والشهور والدهور، حقًّا إنه (صلوات ربي وسلامه عليه) هو النور الذي أشرقت به ظلمات الشرك والضلال.

وها هو النبي الكريم يعلمنا الأدب في شهر رجب، ويعملنا (عليه الصلاة والسلام) سماحة الإسلام، الأمر الذي تؤكده سيرته العطرة، وأخباره المشرقة، فلأنه كان يعلم فضل هذا الشهر الحرام الذي هو من الأشهر الأربعة الحرم، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) له فيه مواقف مشهودة وحسنات غير معدودة وسماحة لا محدودة.

ولن أحدثكم ـ إخواني الكرام ـ عن تعبد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الشهر ولا عن صيامه وقيامه، وإنما سأخصص الحديث عما ظهر لنا في حياته (صلى الله عليه وسلم) من إظهار لسماحة الإسلام في هذا الشهر الفضيل، على الرغم من الحرب المستمرة للإسلام منذ بعثته (صلى الله عليه وسلم) وإلى اليوم، فشهر رجب كان في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) شهر لتفريج الكروب وإزاحة الهموم وإزهاقًا للباطل وإحقاقًا للحق، ونصرة للمظلوم وتسلية للمكلوم، فـ(في رجب في السنة الخامسة من البعثة كان قد استمر وزاد المشركون في إلحاق الإيذاء لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الذين أسلموا، وبعد أن زاد عدد المسلمين وكثر ازداد حنق المشركين على المسلمين، وبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولما رأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك، ورأى أنه في حماية الله ثم عمه أبي طالب، وهو لا يستطيع أن يمنع المسلمين مما هم فيه من العذاب، فقد مات منهم من مات، وعُذّب من عُذّب حتى عمي وهو تحت العذاب، فأذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً، وأربع نسوة، ورئيسهم عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ذهبوا فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وكان ذلك في رجب، في السنة الخامسة من البعثة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدًا، ثم بلغ هؤلاء المهاجرين أن قريشًا قد كفّوا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فرجعوا إلى مكة من الحبشة، وقبل وصولهم مكة بساعة من نهار بلغهم أن الخبر كذب، وأن قريشًا أشد ما كانوا عداوة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدخل من دخل مكة بجوار، وكان من الداخلين ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ووجد أن ما بلغهم من إسلام أهل مكة كان باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار ـ كابن مسعود ـ أو مستخفيًا، ثم اشتد البلاء من قريش على من دخل مكة من المهاجرين وغيرهم، ولقوا منهم أذىً شديدًا، فأذن لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في لخروج إلى الحبشة مرة ثانية، وكان عدد من خرج في هذه المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلاً، إن كان فيهم عمار بن ياسر، ومن النساء تسع عشرة امرأة، فكان المهاجرون في مملكة أصحمة النجاشي آمنين، فلما علمت قريش بذلك أرسلت للنجاشي بهدايا وتحف ليردّهم عليهم، فمنع ذلك عليهم، ورد عليهم هداياهم، وبقي المهاجرون في الحبشة آمنين حتى قدموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام خيبر) (سيرة ابن هشام، 1/‏ 343، والبداية والنهاية، 3/‏ 66، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر، 2/‏ 98، 109، وتاريخ الإسلام للذهبي، قسم السيرة، صـ 183).

ومن هذه الهجرة التي كانت في رجب خاصة نأخذ مجموعة من العبر، أولها: أن الشدائد تدور بالمسلمين منذ بعثته (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه معه ومن من بعده إلى اليوم، وثانيها: أن النصر قريب من المؤمنين وأن الله مع المؤمنين، ولكن عليهم التمسك بحبل الله تعالى والتعلق بالصبر والمنعة من الضعف، والله ناصر الحق بل وجعل عليه لك سبحانه، كما نأخذ من هذه الهجرية الرجيبة البداية أن نعلم أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا خلق في تعب ومكابدة، كما قال الله تعالى: (لَقَد خَلَقنا الإنسانَ في كَبَد) (البلد ـ 4)، ونأخذ منها أيضًا أن الإشاعات والأخبار الكاذبة لا تأتي بخير ولا تنزل إلا على شؤم، كما أشيع أن قريشًا تصالحت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومنعت عنه الأذى وهو في الحقيقة خبر مغرض كاذب لم يجني منه الصحابة الكرام إلا تكبد السفر وصدمة الحقيقة باستمرار الأذى للمسلمين في مكة.

.. وللحديث بقية.

محمود عدلي الشريف

 [email protected]