إن الناظر المتأمِّل في كتاب الله بتؤدة، وتأنٍّ- ليتعجَّب كل التعجب من تلك العدالة الإلهية التي لا تظلم الناس شيئا، بل تتفضل عليهم، وتجود بأضعاف ما يقدِّمون من أعمال، يقول الله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة 261 ـ 262).فالحسنة ليس فقط بعشر أمثالها، بل قد تتضاعف - كما في الآية السابقة - إلى سبعمائة ضعف، أو أكثر من ذلك، والأصل أن الحسنة بعشر أمثالها، ولكنْ من جاء بالسيئة فلا يأخذ - عند الله - إلا سيئة واحدة مثلها، يا للفضل الإلهي، والكرم الرباني!، إنه شيء مفرح، وميزان يدعو إلى التسابق، والتنافس في عمل الحسنات، وترك اقتراف السيئات، قال تعالى:(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الانعام ـ 160)، بل إن الذي يصدق في توبته، ويُرِي ربَّه قلبًا سليمًا، ويرى منه طريقا مستقيما فإن الله يتفضل عليه بتبديل سيئاته حسناتٍ، يقول تعالى:(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان ـ 70)، وفي الحديث القدسي الشريف الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى قال:(أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإنْ ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرًا؛ تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب مني ذراعًا؛ تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي؛ أتيته هرولة).هذا من الربَّ تعالى حثٌّ للعباد على ذكْره، والمسارعة إلى طاعته، وتفسيرها عائد إليه، لا يعلم كيفية هذا التقرب منه - جلَّ وعلا - إلا هو، مثلما نقول في استوائه، ونزوله، وغضبه، ورحمته، فكلُّ هذه الصفات تليق به، لا يشابه فيها خلقَه، ولا يعلم كيفيتَها سواه، فلا نكيِّف تقربه، ولا نكيِّف مجيئه، ومشيه، وهرولته، لا نكيِّف ذلك، بل نقول على الوجه اللائق بالله، لكن من ثمرة هذا ومن مقتضاه أنه أسرعُ بالخير إلينا، وأرحمُ بنا - جلَّ وعلا.إن الله لا يظلم الناس شيئا، حيث جعل لهم معيارًا خلاصته أن الحسنة بعشر أمثالها، وكان مقتضى العدل أن السيئة تكون كذلك بعشر أمثالها، ولكنْ - فضلًا منه ورحمة - جعل السيئة بمثلها فقط، بل ورد في الحديث الشريف ما هو أشدُّ عجبًا : أن الذي يَهُمُّ بعمل حسنة، فلم يعملها- لظرف ما - كُتِبَتْ له حسنة كاملة، فإن عملها كُتِبَتْ له عشرا، ومَنْ هَمَّ بسيئة، (وكان مقتضى العدل أن تكتب له سيئة)، لكنَّ الله أكرم من أن يحاسبه عليها، (وهو لم يعملها، ولم يقترفها)، فلم يعملها كتبت له حسنة، فإنْ عملها كُتبت له سيئة واحدة، (وكان مقتضى العدل أن تكتب عشرًا كما كُتِبَتْ له الحسنة)، لكنَّ عدالة السماء، وفضلها أَبَتْ أن تكتبها عشرًا، وكتبتْها واحدةً فقط، فيا لعجب من جلال المغفرة، وسعة الرحمة، وكمال الفضل!.د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية[email protected]