علي بدوان:منذ الحرب انتهاء الحرب العالمية الثانية صيف العام 1945، والقارة الأوروبية، شهدت نقلة نوعية في وجه الاعتمالات والتفاعلات التي دبت في صفوفها مع انتهاء سنوات الحرب الطاحنة، والتي ذهب ضحيتها ملايين البشر من مختلف بقاع القارة الأوروبية. ولم تقف الأمور عند حدود تلك الحرب الطاحنة والمجنونة، بل تعدَّت المجال السياسي من خلال دور واشنطن، التي كانت اللاعب الأساسي في تلك الحرب دون أن تُسهم في تلك الحرب مساهمة فعَّالة أو مؤثِّرة، بل دخلت على الخط أواخر الحرب إياها، اللهم إلا الدور الأميركي في معركة (ميناء هاربر) الياباني والذي فُرِضَ عليها فرضًا.إن تلك الحرب والاعتمالات والتفاعلات، ترافقت مع تحوُّلاتٍ هائلة، والتي أخذت بأعدادها في حينه ملايين البشر، مع تقسيم القارة الأوروبية، وإقامة (جدار برلين) بين الألمانيتين وبالتالي الحالة الأوروبية بشكلٍ عام، والسعي لمشروع إعادة ما دمرته الحرب في القارة الأوروبية (مشروع مارشال). عدا عن انطلاق الاصطفاف العالمي الجديد في حينها، وما كان يُطلق عليه بـ"الحرب الباردة" بين كتلتين تبلورتا بعد انتهاء الحرب ووضع أوزارها. تلك "الحرب الباردة" التي استمرت حتى بدايات العام 1990. بنجومها وروادها المعروفين من دول القارة الأوروبية (حلف الناتو) وحلف فرصوفيا (حلف وارسو)؟إن التجربة تُكرر نفسها الآن، ولكن بطريقة أكثر دراماتيكية ـ إن لم نقل مأساوية ـ من خلال دخول واشنطن على خط إسناد وتغذية الصراع بين موسكو و(كييف)، وإعادة توسيع وتموضع "حلف الناتو" ودوله الجديدة، بضم دول جديدة للحلف، وتوسيع الحرب الاقتصادية، وحرب الطاقة، والغاز، حيث تمتلك موسكو الاحتياط الثاني العالم في العالم من الغاز الطبيعي بعد دولة قطر العربية.إن الاعتمالات والتفاعلات المتسارعة في القارة الأوروبية خلال الفترات الأخيرة، عمومًا، وبخصوص بعض الدول الأوروبية، حاليًّا، يُمكن أن نُسميها بـ"الحرب الصامتة الجديدة"، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن سعت لتفجيرها منذ نهاية عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، والعنوان هي الاقتصاد والتجارة العالميين، والطاقة والغاز في روسيا. وقد بدت مظاهر تلك الوقائع بحرب أوكرانيا أولًا، والتسخين السياسي الأميركي ودخول واشنطن على خط دول الاتحاد الأوروبي ثانيًا.إن تسعير الأجواء والمناخات بين مختلف دول القارة الأوروبية وموسكو، كان وما زال يتم بفعل حركة وجهود الإدارة الأميركية، التي حرَّكت تلك الأجواء، وكادت أن توصلها إلى شفير الحرب الشاملة وليس الجزئية، بين موسكو وأوكرانيا على سبيل المثال، مع ولادة صف جديد في القارة الأوروبية من تحالفات الدول التي تتمتع بترابط مع موسكو.إن الإدارة الأميركية تُريد بالفعل تحطيم وإنهاء الاستقرار والهدوء الأوروبي بين مختلف الدول، بما فيها مع موسكو، التي تُعد القوة الأساسية التي تواجه واشنطن، فاتخذت واشنطن معركتها مع موسكو كمفتاح لرفع منسوب الصراع معها بواسطة حلفاء أو شبه حلفاء أوروبيين. لكن الأوروبيين رفضوا البتة تلك الحرب المجنونة، فوزير الدفاع الفرنسي أعلن رفض تلك الحرب، ورفض مساهمة فرنسا بها مهما كانت الأمور. وكذا آخرون بمن في ذلك البرلمان الأوروبي ودوله، مع دخول البعض من الأوروبيين بتزويد (كييف) بالذخائر المتطورة كـ(إسبانيا) لن يجدي نفعًا أمام قوة موسكو وجبروتها العسكري. ورفض غالبية دول الاتحاد الأوروبي الدخول في متاهة الحرب في أوكرانيا، أو الصراع مع موسكو.إن الولايات المتحدة الأميركية ستجد نفسها في النهاية أمام مغامرة سياسية أرادت إشعالها في أوروبا وعلى امتدادها، وأن يكون حطبها أوروبيًّا، تمامًا كما حصل في الحرب العالمية الثانية، عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب الثانية في نهايتها، لتقطف ثمارها بإلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان في أغسطس/آب 1945. وكأنها كانت "بطلة الحرب" ضد النازية رغم اشتراكها المحدود، في حربٍ ضروس خاضها الحلفاء (الاتحاد السوفييتي + فرنسا + بريطانيا..)، ودول المحور (ألمانيا النازية في حينها + تركيا + اليابان + إيطاليا...).إن القارة الأوروبية بعد انتهاء ذيول الحرب العالمية الثانية، ومعها الحلفاء من الدول التي كانت تحت جناحها، وإطلاقها لمشروع (مارشال) على يد الولايات المتحدة، باتت من وجهة نظر واشنطن البلد "القارة العجوز". التي مهمتها "غسل الأطباق" وتنظيفها وليس صناعة السياسة. لكن الواقع يؤكد أن القارة الأوروبية، ودول الاتحاد تبقى كما هي، بحضورها وثقلها الوازن، ولن تستطيع واشنطن أن تقلل أو تُحجّم من دورها (دور وحجم الأخيرة)، ومن حضورها الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم بأسره.لقد ثبتَ أن (مشروع مارشال) في المرحلة الماضية، وبعد انتهاء الحرب الكبرى العالمية الثانية ومن خلفه الولايات المتحدة، ومن حينها نهاية العام 1945، أنه لن يكون بمثابة "الرافعة" و"مشروع الفرملة" لإعادة بناء القارة الأوروبية وما دمرته الحرب، وعودتها لمسارها الطبيعي؛ لأن واشنطن، وبعضًا من تلك الدول، ومعها الاتحاد السوفييتي السابق، تسعى لهيمنة الولايات المتحدة على العالم بأسره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (أي تقاسم الغنائم)، ووفق سياسة ما بات يُعرف في حينها سياسة "أحادي القطب" التي ترافقت مع "الحرب الباردة" بين الكتلتين اللتين تشكلتا، وهما: (حلف الناتو) و(حلف فرصوفيا).وفي التراجيديا السياسية في المنطقة والعالم، أن الجديد يستنسخ القديم، لكن بشكلٍ سيء. ومشاريع واشنطن الحالية في القارة الأوروبية تقوم على احتواء الأوروبيين، وتسخين المناخات وافتعال المشاكل السياسية، وحتى الحربية كما في أوكرانيا، وفي إطار حلف "الناتو" ومحاولة هيمنتها على القارة ودول الاتحاد.فواشنطن تستنسخ القديم، وتُعيد إنتاج مشروع "مارشال" الذي فشل منذ حينها، بل وردت المجموعة الأوروبية، وقامت ببناء ما دمرته الحرب وحدها، واستطاعت أن تصل إلى التوازن، وإعادة بناء بلادها، وتنمية اقتصادها، وكأن الحرب لم تقع بالرغم من الأهوال التي حملتها وسارت بها، والضحايا الذين سقطوا، ومنهم نحو عشرين مليون إنسان من دول وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وجمهورياته. وبريطانيا وفرنسا...وعليه، إن مشروع (مارشال) لا يشابه حتى أي مشروعٍ طرح في الشرق الأوسط، بل تم طرحه من قبل واشنطن، أوروبيًّا، وتم توجيهه نحو تلك القارة ومستعمراتها وليس باتجاه أي بلدٍ عربي، تحت نيران المستعمر في حينها. لا مشروع (مارشال) ولا مشروع (النقطة الرابعة) في (مارشال).