[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2016/04/ayman-hussien.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أيمن حسين
[/author]


منذ بدء تشكل الدولة في عصر التنوير في أوروبا صنف علماء الاجتماع السلطات الرئيسية في المجتمع بأنها ثلاثة سلطات هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، الأولى بيدها مقاليد الأمر وتنفيذ سياسات الحكم وإدارة الشؤون الداخلية والخارجية للدولة، والثانية تمثل القناة الرسمية للتشريع وسن القوانين التي تسير عليها الدولة وتنفذها السلطة القضائية والسلطة التنفيذية معا، كما تمثل الشعب في محاسبة المقصرين ومناقشة أسباب الإخفاق في تلبية طموحاته، ووضع المفكرون نظريات لضمان استقلالية كل سلطة عن الأخرى وكذلك مراقبتها؛ لكن الجميع اتفق على منح سلطات واسعة للحاكم وتمكينه من تحقيق آمال الشعب وتعزيز النظام العام في البلاد.
وفي القرن الماضي ظهرت الصحافة بقوة على الساحة لتمثل عيون الشعوب على الأنظمة والحكومات، وسلطت أضواءها على الخلل ومواطن الضعف، كما أشادت بمواضع القوة والتميز، فكان لها دورها القوي في توجيه السياسة الداخلية والعالمية، حتى صنفها مفكرو ومثقفو القرن العشرين بأنها السلطة الرابعة، وبالفعل تعاظم دورها ونفوذها بفضل توغلها داخل طبقات المجتمع، وكذلك النخب، فأطاحت برؤساء من سدة الحكم، وكشفت فضائح عالمية مثل فضيحة ووترجيت في أميركا، وكانت أداة قوية للتعبئة المعنوية والنفسية في الحروب، ولأن الرئيس المصري الراحل أنور السادات كان كاتبا صحفيا ورئيس تحرير جريدة الجمهورية المصرية، فقد استخدم صاحبة الجلالة في شحذ همم الشعب المصري والعربي لخوض حرب أكتوبر 1973 وحقق النصر فيها واستعادت بلاده سيناء بعد 6 سنوات من احتلالها.
منذ نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي ظهرت العولمة، وانتشرت مفاهيمها، وكانت الإنترنت إحدى نتائجها، وأنجب تزاوج الإنترنت بالعولمة سلطة جديدة تسمى "مواقع التواصل الاجتماعي"، والتي ظهرت في البداية كمواقع ترفيهية ترتبط الجميع بشبكة عنكبوتية؛ إلا أنها أحدثت تأثيرًا ضخمًا خصوصًا بين الشباب، وأصبح لها قوانينها وعالمها الافتراضي، بل ومسموح لأي شخص أن يترشح ويتقلد منصبا في هذا العالم الجديد، ومع الوقت تحولت من ترفيهية إلى إحدى أدوات المعرفة والنقاش وتبادل وجهات النظر والآراء.
أصبح لكبار رواد التواصل الاجتماعي مكانة في عالمها الافتراضي، وتزايد تأثيرهم ونفوذهم في هذا العالم، حتى أصبحت هذه المواقع سلطة جديدة بمثابة "السلطة الخامسة" ولكنها تعملقت واخترقت القوانين وتجاوزت اللوائح، وعبرت الحدود، وخلال سنوات قليلة تجاوزت كل منجزات السلطة الرابعة في مائة عام، فكان لها الفضل في الإطاحة بعدد كبير زعماء العالم، وأسقطت أنظمة استمرت لعقود، كما تم استخدامها أيضًا في نشر التخريب والدمار، فأطاحت برؤساء تونس ومصر وليبيا واليمن، وأسقطت هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016 لصالح الرئيس الحالي دونالد ترامب، وأطاحت ببيريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، وأزاحت أكثر من رئيس وزراء بريطاني من منصبه، في المقابل كانت طوق نجاة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإفلات من الانقلاب العسكري عليه في يوليو 2017، أيضا استخدمها المخربون لنشر الفوضى في سوريا واليمن وليبيا والعراق، وأنجبت سفاحًا من القوى العظمى تنظيمات إرهابية مثل داعش.
صفحات التواصل الاجتماعي وحساباتها ومنصاتها باتت كقاعات الساسة المفتوحة أمام الجماهير يتبادلون من خلالها التراشق والاتهامات، وكذلك ملاهٍ ليلية لنشر الانحلال، ومنابر لإطلاق الدعاية البيضاء والسوداء، ولا يمنع هذا كونها منارات ثقافية في بعض الأوقات.
مواقع التواصل الاجتماعي بالفعل هي سلطة جديدة "متوحشة" انقضت على الآلة الإعلامية فافترستها، وأصبحت لا تعبأ بجبروت وقوة وسطوة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فهي قادرة على هدم دول ومؤسسات، والتلاعب بالعلاقات الدولية بل والبشرية، وتجاوزت مخاطرها الأمنية فوائدها التنويرية، حتى ظهر مصطلح جديد لعلم أمني اسمه "الأمن السيبراني"، وتلاعبت بالاقتصاد العالمي وخلقت عملات موازية مثل "العملات الرقمية".
الموضوع بات خطيرا، ويستوجب التدخل، فمنذ أن بدأ الضوء الخافت للسلطة الخامسة يتسلل في جنح الظلام المعلوماتي الإلكتروني، وفرح الناس بنوره، ها هي تتضخم على حساب مقدرات شعوب وقيم إنسانية وأسس فكرية، وصار الضوء لهيبًا، والنور جحيمًا، وبات لزاما علينا المواجهة لمنع تآكل التنظيم لصالح العشوائية.