عمان ـ العمانية:
يضعنا فيلم "أشياء الحياة" للمخرج الفرنسي كلود سوتييه بمواجهة أنفسنا، ويسلّط الضوء على الخوف الساكن في دواخل الإنسان، والخوف الذي يتربص بنا من الخارج، سواء أكان من المجتمع أو تحمل المسؤولية أو فداحة الخسارة، وعندما يجتمع هذان الخوفان (الداخلي والخارجي)، فإن التردد هو الذي سيتحكم بنا، وسنصبح عاجزين عن اتخاذ القرار، وحتى لو جاء القرار، فإنه يأتي متأخرًا، وربما بعد أن نكون خسرنا كل شيء.
يبدع "كلود سوتيه" في فيلمه الذي يُعرض ضمن البرنامج الأسبوعي للجنة السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، بالاقتراب من عوالم الإنسان الداخلية، حيث المهندس بيير (الممثل ميشيل بيكولي)، رجل ناجح في عمله، وهو يقع في حب هيلين (الممثلة رومي شنايدر) وقد انفصل عن زوجته كاترين (الممثلة ليا مساري) التي تعيش مع ابنه.
يبدأ الفيلم الذي أُنتج عام 1970، على مشهد لإطار سيارة، وتدور الأحداث في زمنين (الماضي والحاضر)، حيث الماضي بكل خيباته وكل لحظاته السعيدة، والحاضر من خلال ما يسترجعه "بيير" الذي صدمته شاحنة، فانقلبت سيارته، ليقاوم الموت في البداية قبل أن يستسلم له تمامًا وهو يستعرض شريط حياته بمحطاتها التي تتناوب فيها الخيبات والإنجازات.
مشهد انقلاب السيارة وارتطامها بالشجرة، وهو المشهد الذي يتكرر في الفيلم، يحضر ويغيب مع ذكريات "بيير" الذي بدا مترددًا؛ هل يعود إلى زوجته وابنه، أم ينحاز إلى قلبه ويبقى مع حبيبته. وتكشف المَشاهد أن هناك رسالة كتبها البطل إلى "هيلين"، ليدخل الفيلم في عقل "بيير" وذكرياته عن الأيام التي عاشها مع زوجته وابنه وأصدقائه، ولحظة التقائه مع "هيلين" التي مثلت انعطافة في حياته. "أشياء الحياة" كما يرى الناقد السينمائي رسمي محاسنة، يتناول تلك التفاصيل الصغيرة من الذكريات التي برع المخرج بتصويرها، حيث يستحضر البطل الواقع بين الغيبوبة والحلم، كل قوته ليثبت أنه ما يزال على قيد الحياة، وأنه سينجو.. حيث العشب، والزهر، ومقدمة حذاء أسود، تمتزج مع ذكرياته، وحيث الرسالة التي كتبها، والتي لا يريد أن تصل إلى حبيبته كيلا تسبب لها الصدمة. وتختلط رؤى "بيير" بأصوات الذين تجمهروا عند الحادث، حيث سائق الشاحنة الذي تسبب بالاصطدام، والشرطة، والزوجان اللذان كانا معه في الطريق بعد أن تعطلت سيارتهما. وخلا ذلك نسمع صوته الداخلي، صوت روحه، وتلك اللحظات المشبعة بالحب، عندما يقول لحبيبته: "اخلعي النظاره"، فتقول له: "أريد أن أراك جيدًا"، فيرد عليها:" فقط أخبريني ماذا تريدين وأنا أدلّك". هذا المشهد يسجل لحظة استثنائية في قصة الحب، عندما يتماهى العاشقان بعضهما ببعض مثل المرايا. وبموازاته، تظهر الإحباطات، عندما تعرف "هيلين" أن حبيبها سيذهب مع زوجته وابنه في رحلة، وتقول له: "تحبني لأني هنا، وإذا عبرت الشارع فإنك لن تعيرني أيّ اهتمام". تأخذ الشرطة محفظة "بيير" والرسالة، لتسليمها لزوجته، ويتم نقله في سيارة الإسعاف، حيث يسأله الطبيب عن مكان الألم فيجسده، فيبتسم ولا يجيب، لأن الجرح والألم يكمنان في حياته، وهنا يفتح البطل الذهنَ على تساؤل كبير، عن هذا الذي نصنعه بأنفسنا وحياتنا، عن هذا الخوف والتردد، عن اتخاذ القرار في اللحظة الأخيرة التي لا تتسع لأحلامنا الحقيقية. وقبل أن يموت "بيير"، يقدم المخرج مشهدًا مؤثرًا، حيث تختلط أحلام البطل بذكريات العائلة والأصدقاء والبيت وهو يقول: "سأخرج من هنا، وعلي أشياء كثيرة سأفعلها في البيت، وأحرق الرسالة، لكيلا أعيش بمفردي". لكن لحظة النهاية تقترب: "لقد حطموا الأورغ، ونام الموسيقار". وأخيرًا، تتلقى الزوجة خبر وفاة "بيير" وهي في غرفة الانتظار، ومن النافذة تشاهد امرأة تركض، لتخبرها استعلامات المستشفى أن حبيبها قد مات، فتعود منكسرة، تتوه وحيدة وسط زحام الحياة، فيما الزوجة تمزق الرسالة بعد أن قرأتها، فقد وصلت الرسالة هي الأخرى، في وقتٍ لم يعد لها فيه أيّ معنى. ووفقًا للناقد رسمي محاسنة، فإن سيناريو هذا الفيلم مكتوب بإتقان، إذ يرسم دواخل الشخصيات ونفسياتها، وعلاقاتها المتشابكة، دون أن يقع بالارتباك. كما تتناوب المشاهد بإيقاع مدهش من خلال المونتاج الذي يتنقل بسلاسة بين زمنين، ما منح الفيلمَ شحنة عالية من المشاعر، وتحضر الموسيقى للتعبير دائمًا عن اللحظة التي تعيشها الشخصية. يضاف إلى ذلك الأداء المتقن لـ"ميشيل بيكولي"، وصوته المعبّر والمؤثر وهو يروي تفاصيل حياته. كما تقمصت "رومي شنايدر" دور العاشقة والغاضبة والمهزومة، في أداء يجسد الشخصية بعمق وفهم، ويعبّر عن المشاعر والحالة النفسية بإتقان ومهارة. "أشياء الحياة" فيلم متماسك، حتى إن مشاهد تحطم سيارة "بيير" من المشاهد السينمائية التي لا تُنسى، سواء على مستوى الإتقان بالحركة، أو على مستوى توظيف هذه اللقطات في سرد حكاية البطل. وكذلك الحال بالنسبة للمشهد السريالي البديع، الذي يجمع كل أبطال الفيلم في الاحتفال، قبيل لحظة موت البطل. يشار إلى أنه تم إنتاج فيلم أميركي في عام 1994، بعنوان" تقاطع"، من تمثيل "ريتشارد غير"، كنسخة عن "أشياء الحياة"، لكنه لم يحقق النجاح الذي حققه الفيلم الفرنسي.