إعداد ـ علي بن عوض الشيباني:
أيها القراء الأعزاء: روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال:(كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: إذ مرت جنازة فقال: مستريح ومستراح منه، فقلنا يا رسول الله: ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب).
مهما طالت حياة ابن آدم فلابد لها من نهاية، ومهما كانت قوة ابن آدم فلابد أن يأتي عليه وقت ويضعف، ومهما كانت خزائن ابن آدم ملآى فلابد أن يأتي عليها يوم للنفاد، فمن هو الحي الذي لا يموت أبداً؟ ومن هو القوي الذي لا يضعف أبداً؟ ومن هو الغني الذي لا تنفد خزائنه أبداً؟ ذلكم هو الله رب العالمين، أحق من عُبد، وأكرم من سُأل، وأجود من أعطى، وأرأف من مَلَك، غني بذاته عن جميع خلقه، لا يحتاج لأحد والكل إليه ذليل محتاج، فقل الحمد لله الذي جعلني مسلماً، وقل الحمد لله الذي أذن لي بذكره، فكفى للعبد فخراً أن يكون الله له رباً.

* كفى بالقرآن هادياً
من أراد الهداية فكتاب الله فيه نور الهداية، ومن أراد الشفاء لأمراض قلبه فكتاب الله هو الشفاء لأمراض قلبه، فكتاب الله هو الشفاء من كل داء، من أراد الحقيقة التي لا وهم فيها فالحقائق كلها في القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أراد أن يعرف الطريق الواصل إلي مرضاة الله وأراد أن يخرج من حيرة الضلالة فكتاب الله يرسم له الطريق ويخرجه من الحيرة والضياع، كفى بالقرآن هادياً ودليلاً، كفى بالقرآن نوراً وشفاء، فاللهم اجعله لنا في الدنيا صاحباً، وفي القبر مؤنساً، ويوم القيامة شفيعاً، وإلي الجنة دليلاً، ومن النار ستراً وحجاباً.
الإنسان إذا ضلَّ طريقه في الحياة فالله يرسل إليه من يُذكِّره به سبحانه، ويكشف عن قلبه الغشاوة ويبين له طريق الهداية، وينأى به عن سبل الضلالة، فمن الناس من يفتح أقفال قلبه لهذا النور الذي جاءه من ربه، ومن الناس من يتكبر ويستهزئ ويسخر وتأخذه العزة بالإثم ، فيسخر من الداعي، وإذا رأى آية من آيات ربه يضحك مستهزئا ساخرا لا يؤمن بيوم الحساب، فهذا الساخر المستهزئ العاصي لا يأخذه الله بالعقوبة إلا بعد المهلة، فيعطيه الفرصة ويسلط عليه العذاب والبلاء لعله يرجع ويتوب، فإذا أصّر علي ما هو فيه أخذه أخذ عزيز مقتدر، ولن ينجيه من بطش ربه حينئذ أهل الأرض جميعا ولو اجتمعوا له .

* علامة أهل الغفلة من السفهاء
وهذا ما يصوره القرآن فيما حدث لفرعون عندما دعاه موسى ـ عليه السلام ـ إلى الله وحده لا شريك له:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُون). يضحكون من آيات الله! هذه علامة أهل الغفلة من السفهاء، فحينما يأتيهم من يذكرهم بالله العظيم الحليم الكريم إذا هم يضحكون ويسخرون ويستهزؤن، ويظنون أنهم يملكون الدنيا وما فيها من خزائن، أما الآخرة فلا تنجذب إليها عواطف قلوبهم، فهم محجوبون بدنياهم عما في الآخرة من نعيم مقيم ولذة طيبة لا تفنى ولا تزول.
(وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .. هذا البلاء من الله لعباده لعلهم يرجعون إليه ويفيقون مما هم فيه من غفلة وضلال، وهذا وجه من وجوه الرحمة الواسعة التي يعامل الله بها عباده، فرجوعهم إليه أحب إليه سبحانه من بُعدهم عنه، يا ربنا ما أرحمك وما أكرمك وما أحلمك! تحب لمن عصاك أن يعود إليك وأنت الغني عنه، والعصاة يفرون من طاعتك وهم أحوج ما يكونون إليك.

والآيات التي ابتلى الله بها بني إسرائيل كثيرة: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فتوجهوا إلي موسى ـ عليه السلام ـ ليرفع عنهم العذاب وقالوا له في سوء أدب ورعونة:(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)، قالوا (ربك) وكأنه ليس ربهم أيضاً! والله يعلم أن العبد سينكث عهده، وبرغم هذا يرفع عنهم البلاء رحمة منه وفضلاً، فالله لا يريد عنتهم وإنما يريد لهم أن يرجعوا إليه ويستجيبوا لرسوله، ولكنهم نكثوا عهدهم:(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ).
وحينما جاءتهم العافية نسوا وقت الشدة والبلاء، وهكذا ابن آدم إذا أصابه البلاء والمرض ورُفع عنه الكرب والمصيبة، نسي ما كان فيه من الشدة، وألهاه الشيطان بنعمة العافية، ونسي أن الله قادر أن يسلب منه ما هو فيه في لحظة واحدة .

روى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن العبد إذا مرض أوحى الله إلى ملائكته: يا ملائكتي أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه أغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد ولا ذنب له)، وروى البخاري في الأدب المفرد عن سعيد بن المسيب قال:(كنت مع سلمان وعاد مريضاً في كندة فلما دخل عليه قال: أبشر فإن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتباً، وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل
يا عباد الله: هذه الذراع تتحرك بأمر مَنْ؟ هذه القدم تسعى بأمر مَنْ؟ هذه العيون ترى بأمر مَنْ؟ هذا القلب النابض ينبض بأمر مَنْ؟ هذه القدم التي تسعى ولو سلب الله منها الحركة لشُلّت من يحركها غير الله سبحانه؟ لو أخذ الله نور العيون من إله غير الله يعطينا النور لنرى؟ فلا ننتظر من الله البلاء لنعود إليه وقت الشدة، بل نُقبل عليه وقت الرخاء والعافية، فمن تعرَّف علي الله في الرخاء تعرف الله عليه في الشدة، والله لا يضيع عباده المؤمنين أبدا، وكفى بالله وكيلاً.