شهد الأسبوع المنصرم قيام عددٍ من البنوك المركزيَّة حَوْلَ العالم بتخفيض أسعار الفائدة، في خطوة جذبت اهتمام الأوساط الاقتصاديَّة والمحللين الماليين؛ لِمَا تحمله هذه القرارات من انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على أداء الاقتصاد الكلِّي لتلك الدول.
وتُعَدُّ أسعار الفائدة إحدى أهمِّ أدوات السياسة النقديَّة الَّتي تعتمد عليها الدول في إدارة النشاط الاقتصادي، سواء عَبْرَ خفضها لتحفيز النُّمو الاقتصادي بها أو رفعها للحدِّ من التضخم.
تاريخيًّا تُشكِّل «النظريَّة الكينزيَّة» للاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز الَّتي نشرها في كتابه «النظريَّة العامَّة للتشغيل والفائدة والنقود» في ثلاثينيَّات القرن العشرين بأنَّها الركيزة الفكريَّة الأبرز في تفسير خفض أسعار الفائدة كأداة لتنشيط الاقتصاد.
ووفْقَ كينز فإنَّ الأسواق لا تحقق التوازن تلقائيًّا وقد تستدعي تدخلًا حكوميًّا مباشرًا عَبْرَ خفض الفائدة وزيادة الإنفاق العام، حيثُ يؤدي هذا التوجُّه إلى خفض تكلفة الاقتراض ممَّا يشجع الشركات على الاستثمار ويُحفِّز على الاستهلاك فيرتفع الطلب الكلِّي وتتحسن مستويات التشغيل.
وعليه فقد تبنَّت مؤسَّسات ماليَّة عالميَّة هذا التوجُّه الاقتصادي، معتبرة أنَّ السياسة النقديَّة التوسعيَّة الهادفة لتحفيز النشاط الاقتصادي تُشكِّل صمام أمان في مواجهة أيِّ تحدِّيات محيطة أو متوقعة.
أمَّا المدرسة «الكينزيَّة الجديدة» الَّتي برزت بالثمانينيَّات لعددٍ من الاقتصاديين بَيْنَهم الأميركي جريجوري مانكيو والفرنسي أوليفييه بلانشار، فقد طوَّرت النظريَّة الكينزيَّة الأولى عَبْرَ نماذج كميَّة دقيقة، مؤكدة على أنَّ خفض الفائدة في الفترات الَّتي تتطلب ذلك الإجراء ستسهم في تعزيز مسار اقتصادات الدول الَّتي تطبِّقه عَبْرَ إضفاء المرونة على الأسعار والأجور.
وقد استلهمت العديد من البنوك المركزيَّة الكبرى، بما فيها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وصندوق النقد الدولي، هذا التوجُّه في سياساتها خلال الأزمات الماليَّة المتلاحقة.
أمَّا مدرسة «ما بعد الكينزيَّة» للاقتصادي الأميركي جون روبنسون وآخرون في خمسينيَّات وستينيَّات القرن العشرين، فقد ذهبت أبعد من ذلك، معتبرة أنَّ الاستثمار هو الَّذي يقود الادخار وليس العكس، وبالتالي فإنَّ خفض الفائدة يشعل الشرارة الأولى للنُّمو عَبْرَ تحفيز الاستثمار المنتج.
وفي السياق أيضًا هناك مدارس اقتصاديَّة عديدة تؤيد الاتجاه نَحْوَ سياسة رفع الفائدة بَيْنَها «المدرسة النقديَّة» بالخمسينيَّات للاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان، فهي ترى في التضخم بأنَّه ظاهرة نقديَّة بحتة تنشأ من زيادة عرض النقود على نُمو الإنتاج، وهي بالتالي تؤيد رفع الفائدة عندما يكُونُ التضخم مرتفعًا.
وهناك أيضًا المدرسة الاقتصاديَّة «الكلاسيكيَّة الجديدة» الَّتي تبنَّاها مجموعة من الاقتصاديين أبرزهم البريطاني ويليام ستانلي جيفونز والنمساوي كارل منجر، فهي تؤيد سياسات رفع الفائدة لأجل خلق توازن بَيْنَ الادخار والاستثمار، معتبرة أنَّ الأسواق تميل للتوازن من تلقاء نفسها، وأنَّ اللجوء لرفع سعر الفائدة تكُونُ الحاجة له عندما يتجاوز الطلب الكلِّي القدرة الإنتاجيَّة للاقتصاد، أي عند ارتفاع التضخم.
في ضوء هذه الاتجاهات يتضح أنَّ تأثيرات خفض أو رفع سعر الفائدة ليست مطلقة، بل تعتمد على طبيعة الاقتصاد وبنيته الإنتاجيَّة وموقعه من الدَّورة الاقتصاديَّة. ففي بعض الظروف الاقتصاديَّة المحيطة يكُونُ خفض الفائدة وسيلة فعَّالة لتحفيز النشاط. أمَّا في الاقتصادات الَّتي تواجه ضغوطًا تضخميَّة أو تدفقات رأسماليَّة مفرطة، فإنَّ رفع الفائدة يصبح أداة للتهدئة وضبط الإيقاع النقدي.
وعليه، فإنَّ قرارات الفائدة رفعًا أو تخفيضًا بمختلف الاقتصادات العالميَّة ليست مجرَّد مؤشِّرات مصرفيَّة، بل رسائل سياديَّة تعَبِّر عن توازن دقيق بَيْنَ النُّمو والاستقرار، حيثُ يسهم خفضها في تقليل كلفة التمويل وتشجيع الاستثمار والاستهلاك، في حين يهدف رفعها للحدِّ من التضخم. وبَيْنَ هذين الاتجاهين، يبقى التحدي الحقيقي هو إدارة هذا التوازن بدقَّة، بحيثُ تظل السياسة النقديَّة أداة لتعزيز استدامة النُّمو دُونَ إتاحة الفرص لظهور أيِّ اختلالات اقتصاديَّة هيكليَّة.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن»