بكُلِّ نجاح واقتدار، نهضَ الأخ العزيز الشَّيخ محمد بن عبدالله الحارثي، بمشروعٍ عملاق، قوامه ترجمة الوثائق البريطانيَّة الهائلة الَّتي يفيضُ بها الأرشيفُ البريطاني، وقدَّم للمكتبة، بفروعها العُمانيَّة والعربيَّة والعالَميَّة، خدمةً جليلة لا تقدِّرها الأثمان، وأفنَى عُقودًا من عمره وأنفقَ جزءًا من ثروته في سبيل إخراج هذه الوثائق النَّفيسة إلى العَلَن، وترجمتها إلى اللُّغة العربيَّة بمنهج علمي مُتقَن، وتقديمها إلى الباحث والقارئ في طبعاتٍ فاخرة، وما كان حلمًا، تحوَّل إلى برنامج عمل مدروس ومفعَّل، وإلى تنفيذ وإنجاز وواقع ملموس... تركيز الشَّيخ المُترجِم على الوثائق البريطانيَّة خاصَّة، مردُّه إلى، أوَّلًا: الهيمنة البريطانيَّة على منطقة الخليج العربي، وعددٍ من البُلدانِ العربيَّة، ومناطق ودوَل أُخرى من العالَم، استمرَّت لمئات السَّنوات لبعضها، والاتِّفاقات الاستراتيجيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة... الَّتي وقَّعتها مع حكومة وأنظمة هذه البُلدان وفي مقدِّمتها سلطنة عُمان، والدوَل الخليجيَّة... ثانيًا: لتربُّع بريطانيا كقوَّة عالَميَّة على مدَى قرون، وسيطرتها على مُعْظم الطُّرق والموانئ والبحار والمحيطات والبوَّابات الاستراتيجيَّة على مستوى العالَم... ثالثًا: لعلاقاتها الاستراتيجيَّة الوثيقة المستمرَّة حتَّى اليوم مع بُلدان العالَم، وبالأخصِّ القوَّة العظمى، الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، ودَوْرها العَلَني والخَفي، المباشر وغير المباشر في رسمِ السِّياسات وإدارة خيوط اللُّعبة السِّياسيَّة والتَّحكُّم في الصِّراعات والحروب والحدود وتوجيهها بما يخدم مصالح الغرب على وَجْه العموم، وبريطانيا بالخصوص، وبما يُحقِّق المزيد من النُّفوذ والهَيْمنة... رابعًا: لأنَّ البريطانيِّين سواء كانوا موظَّفين ومسؤولين مكلَّفين ومتخصِّصين، بمختلف درجاتهم ومواقعهم ومناصبهم الرَّفيعة والصَّغيرة، وباحثين ومكتشفين ورحَّالة ومبشِّرين... امتلكوا مهارةَ الحسِّ التَّوثيقي، وكتابة وتسجيل ملاحظاتهم اليوميَّة، بإتقانٍ وبراعة وغِنى في المحتوى، وتفصيلٍ دقيق يحتوي على كُلِّ شيء يخطُر في البال، فنشأَ من ذلك الحسِّ والعمل المخابراتي والجاسوسيَّة، والاستيعاب والشَّغف والهواية والفضول حتَّى، أرشيفٌ ضخمٌ يحتوي على كنوزٍ من المعلومات المُتخصِّصة في شؤون دوَل وشعوب وثقافات وأقاليم... تحتاج إلى التَّنقيب والكشف والتَّقييم والتَّصنيف والتَّرجمة والمُراجعة والإخراج لِتصبحَ متاحةً للجميع، ومرجعًا للباحثين والقرَّاء... كُلُّ تلك الأسباب والحيثيَّات أسهمَتْ في غنى هذه الوثائق والتَّقارير السِّريَّة وغير السِّريَّة، والرَّسائل والتَّوصيات والملفات الدَّسمة والدِّراسات بأنواعها ودرجاتها ومستوياتها الَّتي تراكمت في الأرشيف البريطاني على مدى قرون من الزَّمن، وأصبحتِ اليوم مرجعًا خصبًا، ومصدرًا يفيض بالمعلومات عالية القِيمة، ويتدفَّق بالأسرار والخبايا المرتبطة بتاريخ وأحداث سلطنة عُمان، والخليج، والعالَم العربي، وعلاقات الشُّعوب والحكومات والأنظمة والقوى والإمارات والبُلدان بعضها بعضًا، بتشابكاتها وصراعاتها ومصالحها وتداخلاتها الحدوديَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة، وسِيَر الشَّخصيَّات الفاعلة والمؤثِّرة، والثَّقافات والأعراف والتَّقاليد والنُّظم الزِّراعيَّة والاقتصاديَّة والأنماط السَّائدة، ووصف الطَّبيعة والجغرافيا والمناخ والثَّروات المتوافرة وما يطرأ من حوادث الأوبئة وكوارث الطَّبيعة وغيرها كثير، ممَّا يصعُب حصرُه في مقال. وبالمختصر، يُمكِن أن نعرفَها باعتبارها مرجعًا شاملًا مفصِّلًا لكُلِّ ما يرتبط بسياساتنا وأعرافنا ومحتوى ثقافتنا وشخصيَّات مُجتمعنا وما جرَى في منطقتنا من أحداثٍ جسيمة وخطيرة أو عاديَّة وصغيرة على مدَى قرنَيْنِ من الزَّمن... فأن يتصدَّى فردٌ واحد لمشروعٍ بهذه الجسامةِ والحجْمِ والضَّخامة والأهميَّة، بما يُضيفه من قوَّة المصادر والمراجع التَّاريخيَّة، وخدمات جليلة للأكاديميِّين والباحثين وطلبة العِلم والقُرَّاء، ثمَّ دَوْره في تعميق الوعي وتصحيح الفَهْم والإحاطة والإدراك بما يَدُور من حَوْلِنا وكيف تُدار سياسة العالَم.. لأمْرٌ يدعو إلى الإعجاب وتُثير إنجازاته المُتتابعة الدَّهشة والإبهار، مع التَّوضيح بأنَّ الحارثي شغَلَ مناصب وظيفيَّة مهمَّة في الحكومة، إلى جانب أنَّه رجُل أعمال ورئيس وعضو في عددٍ من الجمعيَّات والمؤسَّسات الخاصَّة والحكوميَّة والأهليَّة... لقد صدرتْ عن المُترجم، خلال العَقدَيْنِ والنِّصف المنصرمة، عدَّة موسوعات ضخمة وكتُب منتقاة بعنايةٍ تلقَّفتْها المؤسَّسات الثَّقافيَّة والعلميَّة ومكتباتها وروَّادها والمنتمون إلى فضاءاتها وحقولها بسعادةٍ بالِغةٍ وكتَبَ عَنْها الكثيرون. ومُعْظم ما صدَر من دراسات وأعمال ومؤلَّفات وعناوين حديثة، اعتمدتْ مراجعها ومصادر معلوماتها على هذه الموسوعات والكتُب الَّتي ترجَمها الحارثي. الإصدار الأخير ـ ضِمْنَ سلسلة موسوعات الوثائق البريطانيَّة ـ الَّذي ظهرَ بحلَّة فاخرة تحت مُسمَّى «موسوعات الوثائق البريطانيَّة السريَّة... جذور الدَّولة العربيَّة الحديثة»، في أربع موسوعات، ومن خمسة وعشرين مجلدًا، أعلنَ بوضوحٍ عن التَّوسُّع في المشروع، وانسحابه إلى فضاءات أكثر فسحةً ومجالًا، إلى الإقليم العربي، ببُلدانِه وشُعوبه وثقافاته تاريخًا وعلاقات مع القوى الأخرى على المستوى الإقليمي، أو العالَمي. الموسوعة الأُولى، في سبعة مجلَّدات، وتتقصَّى أحداث الفترة من «1864 وحتَّى 1918»، عنونتْ بـ«من الخلافة العثمانيَّة إلى الثَّورة العربيَّة». فيما تتناول الموسوعة الثَّانية ملفَّات «التَّغلغل البريطاني وحدود المَشرِق العربي، من عام 1914 وحتَّى 1940»، وتضمُّ ستَّة مجلَّدات. أمَّا «الالتزامات البريطانيَّة في المنطقة العربيَّة من العام 1915 وحتَّى 1920»، فاحتوتها الموسوعة الثَّالثة، في ستَّة مجلَّدات كذلك. المجلَّد الرَّابع والأخير، خصَّصه المُترجِم، لملفٍّ حسَّاس ودقيق للغاية، لا تزال انعكاساته وتأثيراته جاثمة على مشهدنا العربي، وهو «السِّياسات البريطانيَّة والقَوميَّة العربيَّة، من عام 1918 وحتَّى 1950»، وظهر في ستَّة مجلَّدات... يكشف الحارثي، في المقدِّمة عن خلفيَّات مشروعه الواعد والطَّموح، من بداية انطلاقته، إلى مراحل ومستويات الإنجاز الَّذي ظهَر متدرجًا، مشيرًا إلى أنَّ العملَ قد «بدأ مع بداية ألفيَّة القرن الحادي والعشرين، بترجمة بعض الوثائق من الأرشيف البريطاني، الخاصَّة بالأوضاع العُمانيَّة وتُوِّج بإصدار الطَّبعة الأُولى من موسوعة عُمان الوثائق السريَّة، في ستَّة مجلَّدات، صدرتْ في نهاية 2007. واستمرَّ الغور في تلك الوثائق بعد ذلك وأثمرَتْ مع 2022 عن إصدار موسوعتَيْنِ جديدتَيْنِ الأُولى بعنوان موسوعة المقيميَّة في الخليج والوكالة السِّياسيَّة في مسقط، من ثلاثة مجلَّدات، وموسوعة النِّفط والحدود في دوَل الخليج، وأيضًا ظهرت في ثلاثة مجلَّدات، ومع بداية سنَة 2023م، استكملنا أعداد الطَّبعة الثَّانية من موسوعة عُمان الوثائق السريَّة في عشرين مجلَّدًا)». ويوضِّح محمد الحارثي بأنَّه «ومن خلال ترجمة تلك الوثائق انبثقتْ فكرة ترجمة الوثائق الخاصَّة بمنطقة المَشرِق العربي بعد الاطِّلاع على الكثير من الوثائق البريطانيَّة الخاصَّة بالدَّولة العثمانيَّة والعلاقات البريطانيَّة والفرنسيَّة والرُّوسيَّة والألمانيَّة والإيطاليَّة، وتداخلات سياساتها وتأثيراتها على المنطقة الممتدَّة من بلاد القوقاز إلى تركيا والبلقان، ومصر والشَّام، وبلاد الرافدين وفارس امتدادًا إلى الجزيرة العربيَّة والعلاقات مع ابن سعود وابن رشيد إلى الإدريسي في اليمن وعُمان ومنطقة الخليج بشكلٍ عام بما في ذلك ساحل عُمان والكويت والبحرين وقطر حتَّى الهند البريطانيَّة، حيث كان لكُلِّ تلك التَّداخلات التَّأثير المباشر على مستقبل دوَل المنطقة، فأخرجت هذا العمل، بعنوان: «موسوعات الوثائق البريطانيَّة السريَّة (جذور الدَّولة العربيَّة الحديثة)». ويُجيد مترجِم هذه الوثائق، بفِطنته المعروفة، ربْطَ الدّلالات والأسباب وما يَرمي إِلَيْه من النُّهوض بهذا المشروع الدَّسم والحيَوي.. وذلك انطلاقًا من الأهميَّة في «وضع إضاءات جديدة لِمَا دار في منطقتنا وفق ما دوَّنَهُ وسَطَّرَهُ اللَّاعب الأساسي وذو الباع في إرساء اللَّبِناتِ الأساسيَّة لإعادة صياغة المنظومة السِّياسيَّة لدوَل المُشرق العربي. وهو مبدأ أساسي في نقلِ الحدَث كما هو ووفّق ما نطقَ به مَن كان يُدَوِّرُ اللُّعبة في هذا الفلك والأكثر معرفةً بما كان يُخطّط له». وقد وفِّقتِ «الجمعيَّة العُمانيَّة للكُتَّاب والأدباء» باختيارها «الشَّيخ الأديب محمد بن عبدالله الحارثي» «شخصيَّة العام الثَّقافيَّة المكرَّمة» لعام 2024م، على هذا المشروع الكبير. نُهنِّئ الباحثين والمؤرخين والأكاديميِّين وعشَّاق القراءة والمعرفة، بهذا الإصدار الموسوعي الفريد في مستواه ومحتواه.
سعود بن علي الحارثي