في غزَّة، تتبدَّل وتتغيَّر الأشياء، وتُهرول سريعةً وهي تقبض على ناصية الحقيقة تقاتل وتواجِه، تتنقَّل كالبَرقِ من مكان لآخر في جغرافيَّة وإحداثيات تُفرض عَلَيْها في كُلِّ لحظةٍ على الأرض الضيِّقة والمسطَّحة في القِطاع.
تبدأ، قصَّةُ تهجيرٍ لشَعبِ فلسطين عام النَّكبة، وما بعد النَّكبة، قصَّة بَيْنَ (أنينٍ وألَمٍ) حيث يحترق قَلبٌ مكسور الرُّوح، وقَدَم مبتورة. فتتوالى موجات التَّهجير القسري عام النَّكبة الكُبرى، إلى مناطقَ تالية في فلسطين، وإلى منافي الدياسبورا والشَّتات.
النُّزوح والتَّهجير، عنوان في الانتقالات اللحظيَّة الَّتي تمَّت في فلسطين وما زالت، وفي مواضع مختلفة، مِنْها، ومِنْها قرب أو على قارعة خَيمة بدأتْ تُشاد بُعَيْدَ أيَّام النَّكبة واستمرَّت لسنواتٍ تتبدَّل بَيْنَ حينٍ وآخر، وتنتقل من مكانٍ لمكانٍ آخر، فالنُّزوح مُتتالٍ، ومتواصل، في موجاتٍ متلاحقة، أوقفَها كفاح لا يلينُ لشَعبٍ صمَّم أن يعيشَ فوقَ أرضِ وطنه وتحت شمس وسماء وطنِه التَّاريخي.
في هذا النُّزوح القسري، جلسَ البعض من (غزاويَّة) الوطن، كأنَّه يعرفُ الآخر لأوَّل مرَّة في غزَّة ودواخلها، والسَّبب فــي «التَّوَهان»، و»الضّياع» الَّذي باتَ يتحكَّم بالموقفِ ولو لفتراتٍ لن تطولَ على الأرجح. هذا الأمْرُ يأتي في ظلِّ حربٍ وحشيَّة لا ترحمُ من سِماتها أنَّ أُفقَها فاشي ومرتفع، ويَقُودُها (عتاة) من المُجرِمين الَّذين لا يهمُّهم الأعداد ليوميَّة من الشُّهداء والدِّماء الَّتي تُراق وتُسكَب على أرض القِطاع والضفَّة الغربيَّة ولبنان.
في نزوح وتهجير غزَّة وقِطاعها، حاولتْ دَولة الاحتلال بضغطِها العسكري ودعم إدارة الرَّئيس الأميركي السَّابق (جو بايدن) ووزير خارجيَّته (أنتوني بلينكن)، دفَعَ شَعبنا للخروج من القِطاع نَحْوَ محافظة سيناء المصريَّة في نكبةٍ ثانية، ككارثةٍ تَحلُّ بالشَّعب الفلسطيني، فامتلأتْ حرب الإبادة، إبادة البَشَر والشَّجر والحجَر في غزَّة (وفق توصيف العالَم بأسْرِه) خلال العام 2024 بالرُّعب والوحشيَّة والإرهاب، بل وبالتَّعطيش والتَّجويع في أقذر حروب الإبادة الَّتي عرَفَها تاريخ البَشَريَّة الحديث والمعاصر بعد إبادة الشُّعوب الأصليَّة في القارة الأميركيَّة وأستراليا ونيوزلندا. لن يغتالوا الحقيقة الفلسطينيَّة الرَّاسخة بتهجير الفلسطينيِّين وتحويلهم إلى لاجئين، فشَعب فلسطين يبقى راية في علياء المَجد والخلود، وقد دفَعَ وما زال يدفع الثَّمن الكبير، لكنَّ النَّصرَ صبرُ ساعةٍ.
نرَى هُنَا، في المأساة الغزاويَّة وحرب الإبادة الصهيونيَّة، كيف يتفاوتْ تأثير النُّزوح والتَّهجير على كُلٍّ واحدٍ مِنَّا، في الوعي، والإدراك، والتَّكوين المُستجد للقِيَم والمفاهيم، ومبادئ الإنسانيَّة.
فالبعض يتملك اعتزازه بماضيه الوطني الفلسطيني الغزَّاوي، ويضيفُ له الجديد في التَّجربة المُرَّة، تجربة صناعة الأسطورة، في ماضيه وحاضره الوطني، والعملي، والثَّقافي، وأحيانًا إحباطه في ظلِّ أمورٍ أرادها الاحتلال أن تسيرَ نَحْوَ المقتلة لشَعبٍ عملاق اِسْمُه الشَّعب الفلسطيني. والبعض أُصيب بانتكاساتٍ لا تتوقَّف تبعًا لمأساةٍ طالتْ واستطالَتْ وهزَّتِ المعمورة، دُونَ أن تجدَ يدًا ولو بتحيَّة تمتدُّ. لحظة الحقيقة الفلسطينيَّة، تبقَى راسخة، لا يمحوها التَّهجير، ولا النُّزوح، ولا الإبادة. فتبقَى يافا واللد والرملة والنقب واسدود والمجدل في تكوين غزَّة، الَّتي ولجَتْ بمواطنيها إِلَيْها في لجوئِهم المؤقَّت إلى قِطاعها، إلى الشّجاعيَّة الَّتي أنجبَتِ الدكتور رمضان شلَّح، وزياد نخَّالة، وعبد العزيز الميناوي... وقد سبقَهم شهداء اللُّجوء إلى القِطاع من الشَّيخ الوقور أحمد ياسين إلى الرنتيسي إلى إسماعيل هنيَّة...
علي بدوان
كاتب فلسطيني
عضو اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ اليرموك